الجن الأبيض

تلقيت قبل أيام مكالمة هاتفية من سيدة قالت: أخذت بعض الأوراق التي كتبت فيها طلاسم سحرية، وكان من المفترض أن أحرق بعضها وأدفن بعضها الآخر، وأرمي في البحر ما تبقى، إلا أنني ترددت في تنفيذ ذلك، فوضعت الكل في قدر وأحرقته، فتصاعد من الأوراق دخان أبيض مع صوت أزيز، وداخلني من ذلك رعب شديد. ولما اتصلت باثنين من «المشايخ...» أكدوا لي أن هذا الدخان الأبيض هو جني هذا السحر، وأنه قد دخل في جسدي، وأنني سأصاب بعد مدة بالجنون إن لم أبادر لأعمال معينة لدفع ذلك.

تذكرت حين سمعت صوتها أنها ليست المرة الأولى التي تقدم فيه على شيء من هذا القبيل، ولما استفهمت منها الأمر، أخبرتني أنها المرة الثانية التي تقدم فيها لعمل السحر - الذي يجلب من بلد عربي - وذلك للإضرار بزوجة أخيها، وأن ما يخيفها الآن أن يكون الأمر قد انقلب عليها، لاسيما مع الأحلام المرعبة التي تأتيها في المنام!!



الخشية من الأوهام



حاولت أن أفهمها أن عليها أن تخاف غضب الله وعقابه في الدنيا والآخرة، لأنها أتت بذنب عظيم يعد من الكفر بالله سبحانه، وأن ما ورد في شأن عمل السحر للإضرار بالآخرين يستدعي منها التوبة الفورية والندم على ما فعلت، إلا أنها لم تستجب لكل هذا الكلام، وأقصى ما صدر عنها (لا بأس، أستغفر الله، ولكن هل سيضرني هذا السحر؟ هل سأصاب بالجنون؟!) قلت لها: هذه كلها أوهام، ومن أخبروك أن الدخان جني خدعوك، وعليكِ أن تتوبي وأن تخافي الله الذي بيده كل شيء، لا أن تخافي من الجن ومن الأحلام والأوهام.. وللأسف لم أجد منها إلا ترديد عبارات الخوف من الجن وتأثيره عليها!



حقائق قرآنية



يذم القرآن الكريم من يخشون الخلق كخشيتهم الخالق أو أشد خشية، قال تعالى في ذم من يخشى الناس: {إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً} (النساء: 77)، وقال عز اسمه في مدح من كان رضا الله هو الأساس عنده في التقييم وفي اتخاذ الموقف، ولا يجعل خشية المخلوق مقدماً على خشية الخالق: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} (آل عمران:: 173-175).

فعلى الرغم من واقعية اجتماع المشركين للقتال وضخامة عددهم وعدتهم، بالمستوى الذي لا يستطيع المسلمون مواجهته على طريقة الحسابات المادية؛ الأمر الذي يُفترض معه أن يدفع بهم إلى الشعور بالخوف والتراجع، ولكن هؤلاء المؤمنين الذين استجابوا للّه وللرّسول، كانوا يعيشون الإيمان في أنفسهم كعامل من عوامل الشعور العميق بالقوّة، من خلال الشعور بالانتماء إلى اللّه القوي القادر، ولهذا لم يخافوا أولياء الشيطان، بل خافوا الله سبحانه، لأنهم على يقين أن {كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} (النساء: 76).



سلطة الشيطان



فما بال أولئك الذين يعيشون أوهام قوة الجن وتأثيراتهم السحرية وآثارهم في عالم الدنيا، ما بالهم يخشون سلطة الشياطين التي لا تتعدى التسويلات والإيحاءات والوساوس والأحلام المزعجة والتأثيرات النفسية {وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} (إبراهيم: 22)، ولا يتقون الله ولا يخشون سطوته وعذابه وانتقامه، فيلجأون إلى المعصية والكفر من خلال السحر إرضاء لشهوة أو إضرارا بالغير؟ إنها معادلة الخائبين الخاسرين، الذين نسوا أن الشيطان لا يملك إلا أن يملأ قلوب أوليائه بالمشاعر السلبية، فيعطي الأشياء من حولهم صورة غير واقعية، فتضخّم في وعيهم القضايا الصغيرة، وتصغّر القضايا الكبيرة، فيضعفون أمام ذلك كلّه.



كدر ولعنات



روي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام: (أقبلت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقالت: إن لي زوجاً، وبه غلظة عليّ، وإني صنعت شيئاً - أي من السحر - لأعطفه علي؟ فقال لها رسول الله: أف لك، كدّرتِ البحار وكدرت الطين، ولعنتك الملائكة الأخيار وملائكة السماء والأرض). وعن أمير المؤمنين علي عليه السلام: (من تعلَّم شيئاً من السحر قليلاً أو كثيراً فقد كفر، وكان آخر عهده بربه وحده أن يُقتل إلا أن يتوب). وعنه عليه السلام: (نحن أهل بيت عصمنا الله من أن نكون فتانين أو كذابين أو ساحرين أو زنائين، فمن كان فيه شيء من هذه الخصال فليس منا ولا نحن منه).

تاريخ النشر 28/11/2009