خطبة الجمعة 16 شوال 1442: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: عقلية المغالبة

- قال تعالى: (إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا) [النساء:35]، هذه الآية الشريفة وإن جاءت في أجواء العلاقة الزوجية، ولكن يمكن اعتبارها قاعدة من القواعد، أو معادلة من المعادلات الإلهية المرتبطة بعلاقات الناس ببعضهم البعض في أجواء الخصومة والنزاعات.
- وهي من جزئين، الجزء الأول، الشرط، وهو يتمثّل في توفّر الإرادة الحقيقية لدى طرفي الخصومة والنزاع في إنهائه، والبحث الجاد عن الحلول والتسويات.
- والجزء الثاني، النتيجة، وهي تتمثّل في التدخّل الغيبي من عند الله سبحانه في إنجاح هذا المسعى وترسيخه ورفع المعوّقات من أمامه.
- في كثير من الحالات، عندما تقع الخصومة والنزاع، سواء في المسائل الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية أو غيرها، وتبدأ مساعي الإصلاح، نجد أن عقلية المغالبة حاضرة بقوة.
- عقلية المغالبة تعني أن الطرفين أو أحدَهما لا يستبطن الرغبة الحقيقية في المصالحة بقدر ما يريد تسجيل نقطة على الطرف الآخر، أو الظهور بمظهر المنتصر في الصراع، أو الطرف الأقوى... وهنا تكمن المشكلة الكبرى المضادّة للمعادلة الإلهية التي ذكرتها الآية.
- ولذا لا يُتوقع أن تترتب النتيجة ما دام الشرط غير متحقق.. وهو الإرادة الحقيقية في الإصلاح.
- متى ما اجتمع الزوج وزوجته في مجلس للصلح، وكانت عقلية المغالبة هي السائدة أو حاضرة عند أحدهما، فمن الصعب الوصول إلى إصلاح وحل للنزاع القائم بينهما.
- منطق أصحاب عقلية المغالبة يخالف المنطق الإلهي إذ يقول تعالى: (وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ) [النساء:128]... فالصلح -ما أمكن- أفضل على طول الخط.
- سعي الإنسان لأن يحفظ مصالحه ومنافعه جزء من الغريزة البشرية القوية عنده، وهذا معنى (وَأُحْضِرَتِ الْأَنفُسُ الشُّحَّ)، وهذا أمر حيوي وضروري لبقاء الإنسان، ولكن توظيفه في المكان الخطأ سيؤدي إلى ما يخالف مصلحته.
- فهذه العبارة بمثابة تنبيه إلهي ليتذكّر طرفا الخصومة والنزاع وجود غريزة داخلية قوية ومستحكِمة تدفع كلاً منهما للاستجابة لعقلية المغالبة كي يحفظ كلٌّ منهما مصالحه، ولكن الحياة والتفاعل مع الآخرين تستدعي ضبط هذه القوة الغرائزية والسيطرة عليها وتحييدها متى ما تطلب الأمر ذلك.
- ولذا المطلوب قبل عقد مثل هذه الجلسة أن يراجع كلٌّ منهما نفسه ليتأكّد من أنه يمتلك الإرادة الحقيقية لإنهاء الخصومة، لا أنه يَدخلها بعقلية من يريد التغلب بالنقاط أو بالضربة القاضية.
- ويبدو أن الوضع السياسي المتأزم عندنا في الكويت في العلاقة بين الحكومة والمجلس ما زال محكوماً بعقلية المغالبة، وسعي كل طرف لتسجيل النقاط على الطرف الآخر، أو انتظار اللحظة المناسبة لتسديد ضربته القاضية.
- ولذا لا يُتوقَّع أن تتحقق القاعدة أو المعادلة الإلهية: (إِن يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا).
- هذه الحالة عبّر عنها الشاعر أبو فراس الحمداني في البيت الشهير القائل:
وَنَحْنُ أُنَاسٌ لا تَوَسُّطَ عِنْدَنَا لَنَا الصّدرُ دُونَ العالَمينَ أو القَبرُ
- فالشاعر هنا يعتز ويفتخر أنه يمتلك عقلية المغالبة على طول الخط... فليست لديه حلول وسط... ولا تنازل... ولا تصالح... إما التغلب والفوز والهيمنة، أو لا شيء.
- ويقابل ذلك ما جاء في عهد أمير المؤمنين عليّ (ع) لمالك الأشتر: (ولَا تَدْفَعَنَّ صُلْحاً دَعَاكَ إِلَيْهِ عَدُوُّكَ ولِلَّهِ فِيهِ رِضاً) نحن لا نتحدث عن مصالحة تؤدي إلى استحكام الفساد وتمكينه، ولا نتحدث عن مصالحة تؤدي إلى تسلّط طرف على الرقاب وفتح الطرق أمامَه لكي يظلم كما شاء، بل المصالحة التي تؤدي إلى تحقيق عدالة نسبية، وإلى وضع أفضل مما هو عليه، وحينذاك تترتب النتائج الإيجابية (فَإِنَّ فِي الصُّلْحِ دَعَةً لِجُنُودِكَ، ورَاحَةً مِنْ هُمُومِكَ، وأَمْناً لِبِلَادِكَ).
- وعلى أمل أن نشهد اليوم الذي يتخلّص فيه طرفا الخصومةِ والنزاعِ في الساحة السياسية من عقلية المغالبة وتسجيل النقاط والبحث عن لحظةِ تسديدِ الضربة القاضية إلى الطرف الآخر، وسيادةِ الرغبةِ الصادقة ِوالإرادةِ الحقيقيةِ في الخروجِ مِن الوضعِ الراهنِ المأزومِ إلى وضعٍ يفتحُ آفاقَ العملِ المشتركِ البنّاءِ بين الطرفين، لتحقيقِ التنمية، ولمواجهةِ كلِّ منابعِ الفسادِ ومشاريع نهبِ المال العام.