هل حرم الأئمة (ع) وقدماء فقهائنا الاجتهاد والتقليد ؟ الشيخ علي حسن

انتشرت بعض مقاطع فيديو تتحدث عن أن علماء الإمامية – وتبعاً لبعض الروايات عن أئمتهم – كانوا يحرمون الاجتهاد والتقليد ثم أجازوهما بل وأوجبوا على غير المجتهد التقليد أو الاحتياط ... فهل كان الاجتهاد والتقليد من المحرمات؟
- لن أرد على كل ما جاء في المقاطع وبالتفصيل ولكن أريد أن أبيّن كيف يتم التلاعب بالكلمات والمصطلحات والمراد مما جاء في بعض الروايات وكلمات العلماء حتى يتبين الطريقة التي يعتمدها هؤلاء في إثبات كلامهم.
- من الروايات التي يتمسكون بها ما جاء عن أبي بصير، قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): تَرِدُ علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب الله ولا سُنَّته، فننظرُ فيها؟ قال: «لا، أَمَا إِنَّك إنْ أصبتَ لم تُؤجَر، وإنْ أخطأتَ كذبتَ على الله» .
1. لابد من التمييز ما بين عصر حضور النبي أو الإمام وكون الفرد قادراً على الأخذ عنهم مباشرة، وما بين العصر الذي لا نجد إمكانية لتحقيق ذلك، كما في عصرنا هذا... فماذا نفعل؟ نترك كل إنسان ليفعل ما يحلو له بلا هدى ولا دراية؟ أم نسمح لأهل الاختصاص بأن يسعوا للبحث عن إجابة من خلال القواعد التي استخرجوها من القرآن وما روي عن النبي وآله؟
2. معنى عبارة (فننظرُ فيها) الواردة في الرواية أي نحاول الوصول إلى حكمها من دون دليل قرآني ولا روائي ولا من خلال القواعد الموجودة فيها... كأن يكون ببعض أنواع القياس غير الصحيحة.. مثلاً قالوا (حكم قتل العبد خطأً هو حكم قتل البهيمة خطأ، لماذا؟ لأن العبد والبهيمة مملوكان) هذا قياس الشبه، وهو باطل.
- لذا ورد النهي عن ذلك، وليس النهي في الرواية السابقة عن محاولة الوصول إلى الحكم في المسألة من خلال النظر في الأدلة.
- وبالتالي فمراد الإمام قريب مما جاء في رواية مسعدة بن صدقة، قال: وقال أبو جعفر (عليه السلام): «من أفتى الناس برأيه فقد دان الله بما لا يعلم، ومن دان الله بما لا يعلم فقد ضادَّ الله حيث أحلَّ وحرَّم فيما لا يعلم ».
3. عن أبي عبد الله (عليه السلام): «إنَّما علينا أنْ نُلقي إليكم الأُصول، وعليكم أنْ تُفرِّعوا» والفقهاء يسعون إلى استخراج هذه الأصول ودراستها ومن ثم يقدّمون الفتوى على أساسها.
- رواية عمار الساباطي عن الصادق: (كل شئ نظيف حتى تعلم أنه قذر، فإذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك)
- من القواعد التي جاءت في رواياتهم (قاعدة الطهارة) و(قاعدة التجاوز) و(قاعدة الفراغ) و(قاعدة اليد) و(قاعدة سوق المسلمين)، ومن خلالها يحاول الفقيه أن يصل إلى الفتوى.
- لاحظ كيف يوجه الإمام السائل إلى الاستفادة من قاعدة قرآنية: عن عبد الاعلى مولى آل سام، قال: (قلت لأبي عبد الله عليه السلام عثرت فانقطع ظفري فجعلت على أصبعي مرارة، فكيف أصنع بالوضوء؟ قال: يعرف هذا وأشباهه من كتاب الله عز وجل. قال الله تعالى: [وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ]، امسح عليه).
4. مصطلح الاجتهاد والتقليد من المصطلحات التي طرأ عليها التغيير في المراد منها، فقد كان المراد من مصطلح (الاجتهاد) في زمن الأئمة وبعد ذلك بقليل هو الإفتاء بالرأي من قبيل (قياس الشبه)، من دون الاعتماد على النصوص القرآنية والروائية والقواعد المستخلصة منهما، أو حتى الإفتاء بما يعارض النص صريحاً... وهذا هو الاجتهاد الذي ورد فيه الذم.
- ومن الروايات التي يتمسكون بها ما عن الصادق (عليه السلام): «إيَّاكم والتقليد، فإنَّه من قلَّد في دينه هلك، إنَّ الله تعالى يقول: ﴿اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ﴾، فلا والله ما صلُّوا لهم وما صاموا، ولكنَّهم أحلُّوا لهم حراماً وحرَّموا عليهم حلالاً، فقلَّدوهم في ذلك، فعبدوهم وهم لا يشعرون».
- وكلام الشيخ الطوسي: قال الشيخ الطوسي (قدّس سرّه) - حسب نقل الناشر -: (التقليد إنْ أُريد به قبول قول الغير من غير حجَّة وهو حقيقة التقليد فذلك قبيح في العقول).
1. جاء هذا في قسم العقائد من كتابه لا في القسم الفقهي، قال في تتمة كلامه (ولأنَّه ليس في العقول تقليدُ الموحِّدِ أولى من تقليد الملحد) فهو ناظر إلى التقليد في العقائد، وهذا منهي عنه.
2. ثم في تتمة كلامه قال: (لأنَّ فيه إقداماً على ما لا يأمنُ كونَ ما يعتقده عند التقليد جهلاً، لِتعَرِّيه من الدليل، والإقدامُ على ذلك قبيحٌ في العقول). والفقهاء إنما يفتون بالدليل الذي يتوصلون إليه من القرآن والحديث والقواعد التي يعتمدونها، وليس بلا دليل حتى يكون قبيحاً.
3. يتضح من كلامه في المقاطع السابقة أن مصطلح التقليد في ذلك الوقت كان يراد منه في الأساس الاعتماد على قول الغير بلا حجة وبلا دليل، والمسائل الفقهية التي يقدمها الفقهاء في كتبهم ليست من هذا القبيل، وإلا فأين نذهب بدروس بحث الخارج التي تمتليء بها الحوزات.
- ولكن كان يستعمل أيضاً في المعنى الذي نستعمله فيه اليوم، ولذا نفس الشيخ الطوسي قال في كتابه (العُدَّة في أصول الفقه): (والذي نذهب إليه أنَّه يجوز للعامِّيِّ الذي لا يقدر على البحث والتفتيش تقليد العالِم).
- ثمَّ استدلَّ الشيخ الطوسي على الجواز بما نصُّه: (يدلُّ على ذلك: أنّي وجدتُ عامَّةَ الطائفة من عهد أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى زماننا هذا يرجعون إلى علمائها، ويستفتونهم في الأحكام والعبادات، ويفتونهم العلماء فيها، ويُسوِّغون لهم العمل بما يفتونهم به، وما سمعنا أحداً منهم قال لمُستَفْتٍ: لا يجوز لك الاستفتاء، ولا العمل به، بل ينبغي أنْ تنظر كما نظرتُ، وتعلم كما عَلِمتُ، ولا أنكَرَ عليه العمل بما يفتونهم، وقد كان الخَلقُ العظيمُ عاصروا الأئمَّة [ع]، ولم يُحكَ عن واحدٍ من الأئمَّة النكير على أحد من هؤلاء، ولا إيجاب القول بخلافه، بل كانوا يُصَوِّبونهم في ذلك، فمن خالفه في ذلك كان مخالفاً لما هو المعلوم خلافه).
- هذا كله لا يعني عدم وجود أخطاء في فتاوى الفقهاء، أو ملاحظات على مناهجهم في الاستنباط، وإلا لماذا يختلفون فيما بينهم؟ ولكن هذا شيء ومنع الاجتهاد والتقليد شيء آخر.