خطبة الجمعة 27 شعبان 1442: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: حق الله أم حق العباد؟


- تساءل الفقهاء منذ القدم: لو وقع التزاحم بين حق الله (عز وجل) وحق الناس... فأيهما نقدِّم؟
- لله تعالى حقوق على الإنسان، من قبيل توحيده وطاعته وعبادته. وللناس على بعضهم البعض حقوق، تشمل المالية والجسدية والاعتبارية كالمرتبطة بالسمعة والكرامة والأعراض وما شابه ذلك.
- ولو نراجع رسالة الحقوق للإمام السجاد (ع) سنجد أكثر من 50 حقاً مرتبطاً بأصناف الناس.
- نعود الآن للسؤال: لو وقع التزاحم بين حق الله (عز وجل) وحق العباد... فأيهما نقدِّم؟
- ذكر الفقهاء تفاصيل عديدة مرتبطة بهذه المسألة، فمثلاً لو نراجع كتاب (القواعد والفوائد) للشهيد الأول، فسنجد تحت المسألة 117 عدة تفريعات، ولكنني أودّ أن نتوقف قليلاً عند بعض الروايات ونحاول أن نستخلص منها صورة عامة تفيدنا في تكوين رؤية حول الموقف من هذه المسألة.
- المثال الأول، وعليه عدة شواهد من الروايات أنه: (سئل الصادق (ع) عن الرجل يخرج يُشيِّع أخاه مسيرة يومين أو ثلاثة) أي أنه أراد أن يأتي بهذه الوظيفة الاجتماعية غير الإلزامية، ولكنها تمثّل حقاً من حقوق الأخ المؤمن بحيث يقطع معه مسافة من الطريق إبداء للاحترام والمحبة وتقديراً للعلاقة القائمة بينهما، وهو من آداب توديع الضيف... هكذا أدّب الإسلامُ الناس. بل إنّ أمير المؤمنين (ع) صاحَب ذمياً في سفر، حتى وصلا مفترق الطريق، فأكمل معه الإمام، فلما استفسر الذمي عن سبب تصرفه هذا بيّن له الإمام أن هذا من تعاليم الإسلام وآدابه، فأعلن الذمي إسلامه. نعود إلى الرواية وهي تخصّ الصيام على اعتبار أن الصائم يفطر في السفر، فسيقع هنا تزاحم بين حق الله في صيام شهر رمضان وبين حق عبد من عباده في تشييعه عند سفره، فكيف أجاب الإمام؟ (فقال: إن كان في شهر رمضان فليَفطُر. فقيل: أيهما أفضل، يصوم أو يشيّعه؟ قال: يشيّعه. إن الله [عز وجل] وضع الصوم عنه إذا شيَّعه) والرواية معتبرة سنداً.
- وفي رواية أخرى معتبرة أيضاً عن الباقر (ع) في مثل هذه المسألة يقول في آخرها: (يُشيّعه ويَفطُر، فإنّ ذلك حقٌّ عليه) أي تشييعه لأخيه المؤمن من حقوق الناس، وهو مقدّم على حق الله!
- المثال الثاني، وعليه أيضاً عدة شواهد معتبرة سنداً عن معاوية (ابن عمار) عن أبي عبد الله (ع) قال: (سألته عن امرأة حجَّت معنا وهي حُبلى، ولم تحجّ قط) أي حجتها حجة الإسلام (يُزاحَم بها حتى تستلم الحجر؟) فمن المعلوم أن هناك عدة روايات تخبر عن استحباب استلام الحجر الأسود وتقبيله وأن ذلك سنة نبوية ثابتة، وأن هذا الحجر يمين الله في أرضه، فكأن الإنسان يجدد البيعة مع الله من خلاله، وأن هذا الحجر سيُنطقه الله فيشهد في الآخرة لمن استلمه، وهذه المرأة لم تحج من قبل ولا يُعلَم أنها ستوفَّق للاستلام الحجر مرة أخرى في حياتها، وهناك إمكانية لتحقيق هذه السنّة من خلال التدافع واستعمال القوة كما نشاهد دائماً في الحج والمواسم المزدحمة للعمرة وما ينتج عنه من ضرب وضغط شديد وتخريب لطواف الناس وما إلى ذلك مما هو معروف (قال: لا تُغرِّروا بها) أي لا تعرّضوها لهذا الأمر (قلت: فموضوعٌ عنها؟ قال: كنا نقول لابد من استلامه في أوّل سبع واحدة) أي مرة واحدة في أول طواف يأتي به الإنسان (ثم رأينا الناس قد كثروا وحرصوا) أي هناك ازدحام وتكالب على الحجر (فلا) أي عندما وقع التزاحم بين هذا التشريع العبادي الذي يمثّل حقاً من حقوق الله، وبين حق الناس، قدّم الإمام الحقَّ الثاني.
- وهذا ما التزم به الإمام الصادق (ع) بنفسه، فعن معاوية بن عمار، عن أبي عبدالله (ع) قال: (قال له أبو بصير: إنّ أهل مكةَ أنكروا عليك أنك لم تُقبِّل الحجر! وقد قبّله رسول الله (ص)،
فقال: إنّ رسول الله (ص) كان إذا انتهى إلى الحَجر يُفرِجون له، وأنا لا يُفرجون لي).
- من مثل هذه الروايات استنبط بعض الفقهاء قاعدةً مفادها: (حقّ العباد مبني على التضييق، وحقّ الله على المسامحة). وبحسب تعبير السيد اليزدي: (حقُّ الناس أعظمُ مِن حق الله).
- ولذا أفتى هو ومشهور الفقهاء بأنه إذا كانت في ذمة الميت ديون لله وديون للناس، ووقع التزاحم بحيث أننا لو أنفقنا تركته في الأولى لم تكفِ الثانية، وكذلك بالعكس، قدّمنا حقوق الناس.
- إن بين أيدينا معادلة مرتبطة بالتزاحم بين حقوق الله وحقوق الناس، ومفادُها إجمالاً: تقديمُ حق العباد على حق الله، وهي القاعدة التي قد يتفاجأ بها البعض ويستغربونها، بينما هي نابعة من صلب المفاهيم الإسلامية وتشريعاتِ وأخلاقياتِ الإسلام وآدابه، وسرّ هذا الاستغراب نابع أحياناً عن خلل في مضمون الخطاب الديني الذي نقدّمه، وفي انقلاب هرم الأولويات في سلسلة الواجبات والمحرمات التي نربّي عليها الناس، حتى أوصلْنا البعض منهم – بدافع تحقيق التقوى عندهم - إلى التدقيق والاحتياط في أبسط الأفعال العبادية إلى حدِّ الوسوسة فيها، بينما جعلناهم مسوِّفين لا أباليين في ما له علاقة بحقوق الناس المالية والاعتبارية! إن الإنسان إذا ندم واستغفر من ذنوبه، فإن الله قد يتجاوز عن تلك المرتبطة بحقوقه ويصفح عنها، بينما تبقى ذنوبُنا المتعلّقةُ بحقوق الناس رهينةَ الإصلاح أو تجاوزهم عنها. نحن مقبلون على شهر رمضان، والصيام فيه بغاية تحقيق التقوى، والتقوى لا تخص عبادة الله فحسب، بل تمسّ حياتَنا الاجتماعية والعملية في كل أبعادها.. فماذا نحن فاعلون؟