وصف رائع لجانب من نعيم الجنة .. سورة الصافات : 36-61

{ إِلاَّ عِبَادَ ٱللَّهِ ٱلْمُخْلَصِينَ } 40
- في اللغة العربية لدينا نوعان من الاستثناء، استثناء متصل واستثناء منقطع... فإذا كان المستثنى من جنس المستثنى منه، فإنه استثناء متصل، تقول: (جاء الرجال إلا سليمان)، وهو يفيد التخصيص، وإن كان من غير جنسه فإنه يسمى منقطعاً، تقول: (جاء الرجال إلا هدهد) فالهدهد ليس من جنس المستثنى منه (الرجال)، وهو يفيد الاستدراكُ، أي طلب تدارك السامع تصحيحاً لخطأ أو رفعاً لتوهّم ناشئ من الكلام.
- (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ) [الكهف:50]، قد يحدث للمستمع توهّم بأن كل الموجودين سجدوا، الاستثناء المنقطع هنا يرفع هذا الوهم، وإن لم يكن إبليس من الملائكة بل من الجن بصريح الآية.
- الاستثناء في الآية الأولى منقطع، لأن الكلام كان عن المشركين، وعباد الله المخلصين ليسوا منهم حتى يُستثنون، والهدف رفع توهّم أن المشهد في الآخرة مقتصر على العذاب.
- ذِكر المؤمنين بوصف العبودية المضافة لله تعالى تنويه بهم وتقريب، وذلك اصطلاح غالب في القرآن في إطلاق (العبد/العبادِ) مضافاً إلى ضميره تعالى كقوله { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ص: 17] { وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } [ص: 45] { يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ } [الزخرف:68].
- ولما أريد ذِكر قوم من المشركين لم يؤت بلفظ العباد مضافاً، قال تعالى: { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } [الإسراء:5].
- { المُخلَصِين } صفة عباد الله، أي الذين أخلصهم الله لولايته، وإذا جاءت بكسرها (المخلِصين) فتعني الذين أخلصوا دينهم لله.
{ أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ، فَوَاكِهُ وَهُم مُّكْرَمُونَ} 41-42
- الرزق: الطعام، قال تعالى: { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا } [آل عمران: 37]، والمعلوم هو الذي لا يتخلف عن ميعاده ولا ينتظره أهله.
- { فَوَاكِهُ } بيان لطبيعة هذا الطعام، والفواكه من الكماليات، فهم مدللون في طعامهم، وليس الغرض من الرزق مجرّد الإشباع وسدّ الحاجة.
{ وهُم مُكْرمُونَ } أي يعاملون بالحفاوة والبهجة، وهو أهم من مجرّد الرزق، بلحاظ التأثير النفسي.
- وهذا ما يجب أن نلحظه ونحن نساعد الناس، ولذا حذّر الله المؤمنين من العطاء المقرون بالإساءة النفسية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) البطلان يعني ضياع قيمة هذا العمل في الحساب الإلهي... هل للإنفاق الصادر من الذي لا يؤمن بالله واليوم الآخر ورياءً، قيمة عند الله؟ كلا، كذلك الإنفاق من المؤمنين إن تم مع المن والأذى، فلا تتوقعوا أن تجدوا له رصيداً وأثراً أخروياً.
{فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ، عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } 43-44
{ فِي جَنَّاتِ ٱلنَّعِيمِ } هذا الرزق يكرمون به وهم في جنات النعيم، وهذا الإكرام متعدد الوجوه.
{ عَلَىٰ سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } { سُرُرٍ } جمع سرير وهو كرسيّ واسع يمكن الاضطجاع عليه، وكان الجلوس على السرير من شعار الملوك وأضرابهم، وذلك جلوس أهل النعيم، وفيه بالإضافة إلى الفخامة أن الجالس عليه لا يجد مَللاً، لأنه يُغيّر جِلسته كيف تتيسّر له.
- { مُتَقابِلِينَ } وهذا أتم للأُنس، فإن رؤية الحبيب والصديق تؤنس النفس.
{ يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ، بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ، لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } 45-47
- { يُطَافُ } يدار عليهم وهم في مجالسهم.
- { بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } الكأس، إناء الخمر، وهي إناء بلا عُروة ولا أنبوب واسعة الفم، أي محل الصب منها، تكون من فضة ومن ذهب ومن خزف ومن زجاج. وكانت خاصة بسقي الخمر، حتى كانت الكأس من أسماء الخمر تسميةً باسم المحلّ.
- { مَعِين } المعين من الشراب: الظاهر منه، مِن عان الماء، إذا ظهر وجرى على وجه الأرض (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَن يَأْتِيكُم بِمَاء مَّعِينٍ) [الملك:30] أي بماء ظاهر جاري على وجه الأرض، وليس مخزوناً في باطنه ليس في المتناول.
- { بَيْضَاءَ } صفة لــــ«كأس»، ويحتمل أن تكون صفة للخمر إن أريد بالكأس نفس الخمر... والبياض للدلالة على الصفاء.
- { لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ } جيء بالمصدر للدلالة على شدة الالتذاذ، فهي عين اللذة، على خلاف خمرة الدنيا التي قد تكون مرة أو حامضة وحارقة، كريهة الرائحة، ولذا تُشرب دفعة واحدة تجنّباً للإحساس بطعمها المر أو الحامض أو الحارق.

- { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } شارب الخمر في الدنيا يصاب بالصداع وألم الرأس، بينما خمرة الآخرة خالية من هذه الصفة السلبية. وهذا في معنى قوله تعالى { لا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا } [الواقعة:19] أي لا يصيبهم الصداع بسببها.
- لم يقل (لا غول فيها)، فتقديم الظرف المسند على المسند إليه لإِفادة التخصيص، أي هو منتفٍ عن خمر الجنة فقط دونَ ما يعرف من خمر الدنيا.
- وقوع { غَوْلٌ } وهو نكرة بعد { لا } النافية أفاد انتفاء هذا الجنس من أصله.
-{ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } يقال: (نَزفَ الرجُلُ مَاءَ البئر) إذا نَزحه ولم يُبق منه شيئاً، وهنا تم تشبيه عقل الشارب بالبئر، أي أُفرغ، للدلالة على فقدانه عقله تماماً.
- وقدّم المسند عليه على المسند، ليفيد التخصيص، أي بخلاف شاربي الخمر من أهل الدنيا.
{ وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ ٱلطَّرْفِ عِينٌ، كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } 48-49
- { قاصِراتُ الطَّرْفِ } الطرف: العين، (مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ) [إبراهيم: 43]، (قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) [النمل:40]. والمعنى أنهن حابسات أنظارهن حياء وغَنجاً.
- ذكر { وَعِندَهُمْ } لإِفادة أنهن ملابسات لهم في مجالسهم التي تُدار عليهم فيها كأس الجنة، وكان حضور الجواري مجالس الشراب من مكملات الأنس والطرب عند العرب.
- { عِينٌ } جمع عَيْنَاء، وهي المرأة الواسعة العين.
- { بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } المكنون هو بيض النعام، والنعام يُكنّ بيضَه في حُفر في الرمل ويفرش لها من دقيق ريشه، وتسمى تلك الحُفر الأَداحِيَّ، فيكون البَيض شديد لمعان اللون، وهو أبيض مشوب بياضه بصفرة، وذلك اللون أحسن ألوان النساء، وقديماً شبهوا الحسان بِبيض النعام.