ما معنى تجسم الأعمال في الآخرة؟ وهل هو حقيقة أم خيال ؟ تلاوة وتفسير سورة الصافات 36-52

{ إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو ٱلْعَذَابِ ٱلأَلِيمِ، وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } 38-39
- الخطاب في الآية للمشركين، الظالمين، المجرمين، المستكبرين، المكذبين، الطاغين، المتهمين النبي بالجنون والشعر، الساخرين من النبي والقرآن... هكذا وصفوا في هذه السورة.
- (مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) في هذا التعبير دلالة على استمرارهم في تلك الأعمال، بما يعني الإصرار عليها، ولم تكن مسألة عابرة لكي يُتجاوز عنها، ويُغفر لهم حماقة موقف مثلاً.
- (وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وليس في هذا الحكم الصادر بحقكم أي ظلم، لأنه يقابل تماماً ما كنتم تعملون، والعذاب الذي ستنالونه يكافيء أعمالكم بالدقة، حيث أن التعبير الوارد في الآية (مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) وليس (بما كنتم تعملون)، وهناك فرق بين التعبيرين، وكأنها تقول: ما تنالونه من عذاب هو ذاته ما قدّمتم من أعمال، مثلما لو أنني كبست على أزرار الكيبورد على حروف كلمة (مرحبا)، فظهرت الكلمة على الشاشة.
- وهذه الآية من الآيات التي تمسّك بها أصحاب القول بتجسّم الأعمال.
- فقد طرح العلماء المسلمون تساؤلاً مفاده: هل إن أعمال الإنسان في هذه الحياة بخيرها وشرها موجودة ومحفوظة بعينها وحقائقها، أم أنها معدومة وذهبت واضمحلت ولم يبق إلا اسمها وعنوانها؟
- ويترتب على القول الأول أنّ الإنسان يخلق ناره وجنته فعلياً، وأنهما موجودتان فعلياً.
- فكل عمل يقوم به الإنسان سواء كان حسناً أو سيئاً، له صورتان، الأولى دنيوية، والثانية أخروية، وتكمن هاتان الصورتان في جوف وداخل العمل، ومن خلال الصورة الأخروية الواقعية، ينعم الإنسان ويتلذذ، أو يخسر ويتأذى.
- كما قال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا) [النساء:10]. فأكل مال اليتيم ظلماً يتحوّل الآن إلى صورة أخروية، وهو نار معدّة للبطن، وهي تنتظره إلى الآخرة ولربما في البرزخ لتكون في بطنه ويُعذَّب بها.
- وأصحاب الذوق العرفاني الصوفي والفلسفي يأخذون بهذا القول، والمسألة طُرحت في علم الكلام ضمن مباحث المعاد، وفي البحوث الفلسفية والعرفانية وكتب التفسير والأخلاق.
- وقد نقل المجلسي عن الشيخ البهائي عن بعض العرفاء وعبّر عنهم بعنوان (بعض أصحاب القلوب): (إن الحيّات والعقارب بل والنيران التي تظهر في القبر والقيامة هي بعينها الأعمال القبيحة والأخلاق الذميمة والعقائد الباطلة التي ظهرت في هذه النشأة بهذه الصورة، وتجلببت بهذه الجلابيب، كما أن الروح والريحان والحور والثمار هي الأخلاق الزكية والأعمال الصالحة والاعتقادات الحقة التي برزت في هذا العالم بهذا الزي وتسمت بهذا الاسم، إذ الحقيقة الواحدة تختلف صورها باختلاف الأماكن، فتحلّى في كل موطن بحلية، وتزيى في كل نشأة بزي).
- واستدلوا بمجموعة من الآيات والأحاديث، ومنها – بالإضافة إلى ما سبق- قوله تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ) [آل عمران:30].
- وقوله: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة:7-8].
- وقوله: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)، [آل عمران:180]. وآيات أخرى.
- ومن الأحاديث:
- عن النبي (ص): (من علّق سوطاً بين يدي سلطان جائر جعل ذلك السوط ثعباناً من نار طوله سبعون ذراعاً يسلطه الله عليه يوم القيامة في نار جهنم وبئس المصير).
- (عن أبي عبد الله (ع) قال: إذا دخل المؤمن قبره كانت الصلاة عن يمينه والزكاة عن يساره، والبر مُطِلٌ عليه، ويتنحى الصبر ناحية، قال: فإذا دخل عليه الملكان اللذان يليان مساءلته قال الصبر للصلاة والزكاة والبر: دونكم صاحبكم، فإن عجزتم عنه فأنا دونه).
- ولذا قالوا: (إن الأعمال محفوظة بصورها الباطنية وحقائقها العينية في يوم القيامة وعالم البرزخ بل في دار الدنيا، وإن أعمال الإنسان مجسمة وحاضرة أمام صاحبها وإنْ حُجب عنها في الدنيا. هذه الأعمال تتحول إلى روح وريحان وجنة ورضوان ليس في الآخرة والنشأة الأولى فقط وإنما في هذه الحياة أيضاً. وبعكسه الأعمال الشريرة والظلم والعدوان وارتكاب المحرمات وعصيان خالق السماوات والأرض سوف تتحول هذه الأفعال إلى نار جهنم في باطن فاعلها وحيات وعقارب وأفاعي تلتهم صاحبها). وهكذا سيكون الثواب والعقاب بالدقة بمقدار أعمال الخير والشر.
- وفي المقابل هناك رأي آخر يعتبر أن ما ورد في هذه الآيات، ومن ثم الأحاديث، إنما هو أسلوب بلاغي ينبع من طبيعة التعبير اللغوي العربي.
- فعندما نقول أن القرآن عربي، فإنّ هذا لا ينحصر في تمييزه عن سائر اللغات، فهو ليس بفارسي ولا لاتيني فحسب، بل إنه جاء وفقاً للأسلوب اللُّغوي العربي، في البيان والفهم والأجواء، من حيث الخصائص الفنِّيَّة الَّتي قد تحمل في داخلها الإيحاء والإيماء واللَّفتة والإشارة، ما يتجاوز المدلول الحرفيَّ للكلمات.. وهذا هو الَّذي اصطلح عليه بـ"الفهم العرفيّ" أو بـ "الذَّوق العرفيّ".
- فلا يصح أن نفهم قوله تعالى: ﴿وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ حرفياً ومن خلال ظاهرها اللفظي، بل وفقاً للأسلوب البلاغي في اللغة العربية.
- وخطأ نظرية تجسّم الأعمال انطلقت -في أغلب أدلتها-من الفهم الحرفي للنص القرآني، وهو أمر لا يتناسب مع القيمة البلاغية للأسلوب بما فيها من مجاز واستعارة وكناية وقرائن تحف بالعبارات تبيّن أن المراد ما وراء المعنى الظاهر، تماماً كمن يقع في خطأ فهم عبارة: (على راسي- من عيوني) لو أخذ بمعناها الحرفي.
- فإنَّ التطويق بالمال الذي بخلوا به كناية عن حملهم مسؤوليته السلبيّة بإيقاع العذاب بهم لعدم دفعهم لحقوق اللّه، وذلك بأن يُلزموا وبال ما بخلوا به إلزام الطـوق.
- وهكذا فإن (الرؤية) في قوله تعالى: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) هي رؤية كتاب الأعمال، أو نتائجها، وليس نفس الأعمال، حيث قالوا: إنّ الأعمال أعراضٌ، والأعراض لا تبقى ولا يمكن أعادتها.