خطبة الجمعة 30 جمادى الآخرة 1442: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: إمام الحرم في ضيافة الباقر

- روى الشيخ المفيد في (الإرشاد) عن عمرو بن دينار وعبد الله بن عبيد بن عمير أنهما قالا: (ما لقينا أبا جعفر محمدَ بن علي (ع) إلا وحَمل إلينا النفقة والصلة والكُسوة، ويقول: هذه مُعدّة لكم قبل أن تلقوني).
- عندما تطالعنا هذه الرواية، قد نتعامل معها عند حدّ بيان كرم الإمام الباقر (ع) وأخلاقه الرفيعة في التعامل مع الناس، ولكنْ متى ما عرفنا مَن هذان الراويان؟ ولماذا يُعِدّ لهما الإمام هذه الهدايا حتى قبل اللقاء به؟ ولماذا يقصدانه؟ سنعرف أنَّ للمسألة بعداً آخر.
- عمرو بن دينار (ت126هـ) من علماء التابعين، وشيخ الحرم المكي في زمانه ومفتيها. وعُرف عنه الصلاح وطلب العلم وحُسن العبادة، فكان يُجزّيء الليل ثلاثة أجزاء، ثلث للنوم، وثلث لدراسة الحديث، وثلث للصلاة، وأنه كان لا يدع إتيان المسجد، حتى وهو مُقعد.
- وكانت هناك مشاعر مودّة بين الإمام الإمام الباقر (ع) وبين عمرو بن دينار، وزيارات متبادلة، فإذا حجَّ الباقر (ع) التقيا، وإذا زار عمرو المدينة التقيا. ويروى أنه في إحدى زيارات عمرو له، طلب الإمام من أخوينِ له -وأحدهما زيد- أن يساعداه في النزول من دابّته.
- وهكذا كان عبدالله الليثي (ت113هـ) من علماء مكة، وأخذ الحديث عن عدد من الصحابة.
- وخلاصة القول أن الرجلين من علماء زمانهما، وعلى الرغم من عدم كونهما من أتباع مدرسة أهل البيت (ع)، إلا أننا نجد هذا التعامل الأخلاقي الرائع من الإمام، وهذا التواصل والمودّة المتبادَلة، إلى درجة أنّ الإمام (ع) كان يُعدّ الهدايا لهما قبل أن يزوراه، وهذا يحدث عادة عندما يتوقّع الإنسان اللقاء، بلحاظ العلاقة بين الطرفين، وبلحاظ تكرر الزيارة، وكأنها صارت جزءً من برنامج موسم الحج أو زيارة المدينة المنوّرة.
- هذه الصورة الراقية في العلاقة بين أئمتنا (ع) وبين علماء معدودين من مدارس أخرى، وتُماثِلُها شواهدُ وصورٌ عديدة نَقلْتُ بعضاً منها من قبل، تقابلُها صورةٌ مناقضة لها يُقدّمها البعض، فيُصوِّرون من خلالها حالة من التوتّر والكراهية والعداوة والقطيعة بين الأئمة (ع) وبين علماء زمانهم، والحال أنّ علينا أن نفرّق في موقفهم (ع) من بعض وعّاظ السلاطين الذين أعانوا الظالمين في ظلمهم والعلماء الفاسدين من جهة، وبين علماء وأئمةِ مذاهب مشهودٍ لهم بالصلاح، وإنْ كانت لهم قناعاتهم الخاصة المتعلّقة بمسألة الإمامة والخلافة من بعد رسول الله (ص)، وهي مع ذلك كلِّه درسٌ بليغ لعلماء الأمة أملاً في الخروج من حالة الركود والبرود في العلاقات البينية التي نأمل أن تجد تحريكاً إيجابياً ولو على المستوى الاجتماعي، وإن كان الطموحُ أن يرتقيَ ذلك لاحقاً ليشملَ أبعاداً أخرى أكثرَ عُمقاً وأثَراً، وأشدَّ ترسيخاً.