خطبة الجمعة 23 جمادى الآخرة 1442: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: دابة الأرض

- قال تعالى: (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ) [النمل:82]. تعامُل جمع من المفسّرين وأهل الحديث و(مشايخ الدين) مع هذه الآية الشريفة يُعدُّ نموذجاً ممتازاً من نماذج التلاعب، والتحريف، والدّس، والتزوير، والتأويل بالرأي، والقول بلا علم، والتعصّب، والمغالاة، واتّباع الأهواء، وتضييع الحقائق.
- أي أنّ تعاملَهم مع هذه الآية الشريفة خيرُ مصداق لقوله تعالى: (فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا) [آل عمران:7].
- فالآية -والله العالم- رسالة إهانة الكافرين وبيان مدى انحطاط قيمتهم بعنادهم، فقد بعث الله إليهم خير خلقه يقدّم لهم الآيات ويقيم عليهم الحُجج، ويتحدّث معهم بأرقى منطق وأسلوب، فكفروا به، (إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً) [الفرقان:44]... وحيث انحطّوا إلى هذا المستوى، فإن هؤلاء مستواهم في الآخرة أن تكلّمهم دابّة... أي أن الآية في معرض تحقير هؤلاء القوم.. أنتم لم تسمعوا كلام رسول الله، فالله يأتي إليكم بدابّة... ومت سيكون هذا؟
- المسألة مرتبطة بمشهد من مشاهد يوم القيامة وليست من أحداث الحياة الدنيا وعلامات الساعة.
- فقوله (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ) نفهم المراد منه من خلال الآيات اللاحقة مباشرة: (وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ، حَتَّى إِذَا جَاؤُوا قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ، وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِم بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنطِقُونَ) [النمل:83-85].
- وفي يوم القيامة المعايير مختلفة عن هذه الحياة. قال تعالى: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يس:65]. فأن تتكلّم دابّة أمرٌ قابل للفهم والتصوّر.
- هذا المفهوم تم تضييعه من خلال ما نُسج من خرافات حول الآية الشريفة.
- الفخر الرازي في تفسيره لخّص بعضاً مما قاله أهل التأويل وما جاء في الروايات الموضوعة على لسان النبي (ص)، وما روي عن غيره، فلاحظوا ماذا قال: (والناس تكلّموا فيها من وجوه: أحدها: في مقدار جسمها. وفي الحديث أنّ طولها ستون ذراعاً، وروي أيضاً أن رأسها تبلغ
السحاب. وعن أبي هريرة ما بين قرنيها فرسخ للراكب).
- هذا عن المقدار، فماذا عن الشكل؟ (وثانيها: في كيفية خلقتها، فروي أن لها أربع قوائم وزغب وريش وجناحان. وعن ابن جريج في وصفها: رأس ثور، وعين خنزير، وأذن فيل، وقرن إيَّل، وصدر أسد، ولون نمر، وخاصرة بقرة، وذنب كبش، وخف بعير).
- وما يرتبط بكيفية خروجها: (تخرج ثلاثة أيام والناس ينظرون فلا يخرج إلا ثلثُها) وغير ذلك.
- وهكذا تكلّموا في موضع خروجها، بين المسجد الحرام، والصفا، وهناك أيضاً أقوال أخرى.
- وهناك من لم يكتفِ بذلك، حيث رووا خروجها ثلاث مرات.
- ثم علّق في النهاية قائلاً: (واعلم أنه لا دلالة في الكتاب على شيء من هذه الأمور، فإنْ صحّ الخبر فيه عن الرسول (ص) قُبِل، وإلا لم يُلتَفت إليه). ولكن حتى على فرض صحة سند الرواية، فإنّ هذا بحدّ ذاته غير كاف لثبوت الصدور عن النبي (ص)، لاحتمال التزوير في السند، أو الدسّ في الكتب، والخطأ في تقييم الرواة، فتبقى المسألة مظنونة حتى مع صحّة السند.
- وما ذكره الفخر الرازي مجرّد نموذج من تفاصيل كثيرة قيلت أو رُويت في هذا الباب، وكثيرٌ منها ليست بروايات، بل مِن تأويل المأوّلين.
- وعند البحث في هذا الموضوع وجدتُ أن اليد اليهودية داخلة على الخط، فوهب بن مُنبِّه ينقل عن المصادر اليهودية أنّ عُزيراً قال: (تَخرج مِن تحت سدوم) وهي القرية التي نزل عليها عذاب قوم النبي لوط (ع) (دابةٌ تُكلّم الناس....).
- ولعل هذا هو بداية الإلهام في هذه القضية... ففي سفر أيوب من الكتاب المقدّس ذُكر كائن باسم (بهيموث)، والكلمة مشتقّة من كلمة (بهيمة) المشتركة في معناها بين العربية والعبرية، وفي التراث اليهودي أنه (حيوان كبير الحجم، ذو قدرة عظيمة، ومنظره هائل، ومن شأنه أنه كان ولا يزال يُسمَّن منذ ابتداء الخليقة إلى مجيء المسيح، فإذا جاء قُدِّم عندها وليمة للمؤمنين).
- وهكذا فُتحت شهيّة البعض ليتخيّل هذه الدابّة بصور مختلفة، وليَتخيّل دورَها كما يشاء، وجَعلوا لها قدرات خارقة من قبيل ترصّد كلِّ الناس وكأنها مركز عالمي للتجسس، والتمييز بين المؤمن والكافر، ومعها خاتم سليمان وعصا موسى، فتضرب به الكافر فيسودّ وجهه، وتضرب به المؤمن فيضيء وجهه، وأن عندها قدرة على إيصال صوتها للجميع، وأمثال ذلك من التخيلات.
- وجاء آخرون يحسبون أنهم يُحسنون صُنعاً، فرووا أنه (انتهى رسول الله (ص) إلى أمير المؤمنين (ع) وهو نائم في المسجد، قد جمع رملاً ووضع رأسه عليه، فحركه برجله ثم قال: (قم يا دابة الله. فقال رجل من أصحابه: يا رسول الله أيسمي بعضنا بعضاً بهذا الاسم؟ فقال: لا والله ما هو إلا له خاصة، وهو الدابة التي ذكر الله في كتابه (وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِّنَ الأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لا يُوقِنُونَ)).
- ولا أدري هل غفل هؤلاء عن حجم الإساءة لعلي (ع) بوصفه بأنّه دابّة، أم أن راوي هذا الكلام أراد -وهو يرتدي ثوب الغلو في علي- أن يسيء إليه عن عمد؟ حاشا الله وحاشا رسوله أن يصفا أميرَ المؤمنين بهذا الوصف، وكلام البعض ممّن يغالون في الروايات غير مقبول مهما حاولوا أن يبرّروا ذلك بأنّ المراد هو المعنى اللغوي، بحيث أنه يشمل كل ما يدبّ على الأرض بما في ذلك البشر.. فالقرآن الكريم جعل عنوان الدواب قسيماً في مقابل الإنسان: (وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ) [فاطر:28]. فهناك الأنعام مثل البقر والغنم، وهناك الناس، وهناك الدواب مثل الحيوانات البرية، الثعلب والأسد والأرنب.. إلخ. بل أنا أسألهم: لو قال لكم أحدُهم: يا دابة... هل ستفرحون بهذا الوصف؟
- وهكذا تم تضييع هذه الفكرة الرائعة التي جاءت بها آية إخراج دابةٍ من الأرض وذلك في وسط مجموعة من التصوّرات الخرافية، والتأويلات الباطلة، والأقاويل التي لا تقوم على مستند صحيح، ولربما كان بدء ذلك بيد يهودية تمثّلت في مقولةٍ لوهب بن مُنبِّه، فإذا بقريحة القوم تنفتح، ليُضيف كلٌّ منهم إضافةً حول هذه الدابّة الواردِ ذِكرُها في الآية، ودورِها المُدّعى في كونها من علامات الآخرة. هذا نموذج عملي لدور اليهود في التلاعب في دلالات الآيات القرآنية، ودور المأوِّلين بالرأي وأثرِ تأويلاتهم في تضييع مفاهيم القرآن وتلبيسها على الناس، فهل نعي ذلك؟