خطبة الجمعة 16 جمادى الآخرة 1442: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: لماذا لا تقنّنون الحشيش؟

- تكرَّرت في الآونة الأخيرة المطالبات بتقنين وإباحة تناول وتجارة بعض أنواع المخدِّرات التي يُطلقون عليها وصف (الآمنة) بحسب تعبيرهم، من قبيل الحشيش والماريجوانا، وكذلك المُسكرات.
- والأعذار والحُجج متنوّعة، ولا أريد هنا الاستقصاء والرد عليها بأجمعها، ولكن أود أن أركّز على واحدة منها.. قالوا: ما دام الأمر موجوداً ومتداولاً، فلماذا لا نسمح به ونقنّنه؟
- وبحسب ادّعائهم، سيترتب على تقنين هذه المواد والسماح بها عدة فوائد:
1. كل ممنوع مرغوب، فإذا تم السماح بتجارة وتناول الخمور وبعض المخدِّرات، كالحشيش والماريجوانا في البلد، فإنّ هذا سيقلّل من عدد المقبلين عليها.
2. الممنوعات ترتفع قيمتها، مما يُرهِق كاهل المتعاطين مادياً، ويؤثّر على الحالة الاقتصادية الخاصة به وبأسرته، ولكن عندما تُصبح قانونية ستُصبح أقلّ كلفة بكثير، فيصبح هو وأسرته في بحبوحة اقتصادية، ولهذا انعكاسه الإيجابي على اقتصاد البلد.
3. جعلها في خانة الممنوعات يعرّض الفرد المخالف إلى العقوبة والسجن، والسجون –شئنا أم أبينا- ليست بيئات إصلاحية، بل قد تفتح له أبواب الجريمة بمعاشرة المجرمين، ولدخول السجن آثار اجتماعية واقتصادية كثيرة عليه وعلى أسرته، وهذا من الواضحات.
- نأتي الآن إلى الرد على ما سبق.
- أما بالنسبة لمقولة أن هذا الأمر ما دام موجوداً ومتداولاً، فلماذا نصرّ على تجريمه، وأن من المفترض أن نسمح به ونقنّنه... فهذا الكلام فعلاً معيب أن يصدر من أشخاص يُفترض أن يكون عندهم حسّ المسئولية... فهو منطق لا يخفى اعوجاجه.
- القيادة بسرعة جنونية والانتقال في أثناء ذلك من حارة إلى حارة دون استعمال الإشارة الجانبية ممارسة موجودة ولا يستطيع أحد إنكارها، وهي في نفس الوقت مخالفة مرورية جسيمة، ولها آثار سلبية عديدة.. افترض الآن أن إدارة المرور قرّرت تقنين ذلك والسماح به في آخر حارتين من الطريق.. هل سيوافق على ذلك مَن يحمل في رأسه ذرّة عقل؟ بالطبع لا، لماذا؟ لأن قائد المركبة لو فقد السيطرة أو وقع تصادم بينه وبين مستهتر آخر مثله فإن النتيجة لن تنحصر بهما، وستكون الآثار السيئة والخطيرة التي قد تصل إلى حد الموت أو الإعاقة الشديدة عديدة.
- وعلى هذا المثال فقس سائر الأفعال المجرّمة قانوناً، من قبيل السرقة، والغش، والنصب والاحتيال، وخيانة الأمانة، والتحرّش الجنسي... إلخ القائمة.. هل نسمح بها لأنها موجودة؟
- هل نسمح بالبغاء ونقنّنه بحجة أنّ هناك من يُمارسه في السر؟ هل نسمح بإنشاء نوادي وأنشطة علنية للشواذ بحجّة أنّ هناك من يمارس الشذوذ؟
- الخطأ لا يُعالَج بالسماح به وتقنينه وشرعنته، بل بمواجهته جذرياً ومحاولة اجتثاثه وفق أسس علمية وتربوية وقانونية.
- قد يقال أن القياس هنا مع الفارق، فلا ضرر في تعاطي المخدرات (الآمنة) وتناول المسكرات باعتدال، بينما القيادة بسرعة جنونية والسرقة والغش أمور مضرة.
- هذا الكلام باطل علمياً.
- فلو افترضنا جدلاً أنه لا توجد آثار سلبية على تعاطي الحشيش أو الماريجوانا أو الكحوليات في نفسها أو أن الآثار بسيطة -وهذا لا نسلّم به- فإنّ من الحقائق العلمية المثبتة اليوم أنّ تعاطيها أو تناولها سيجرّ إلى الأنواع الأخرى الخطيرة من قبيل الكوكايين والهيروين. والأدلة العلمية على ذلك كثيرة.
- مقال لـ (روبرت ل. دوبونت: رئيس معهد السلوك والصحة، والمدير الأول للمعهد الوطني لتعاطي المخدّرات) في الولايات المتحدة في النيويورك تايمز نشر بتاريخ 26 أبريل 2016 تحت عنوان (ثبت أن الماريجوانا هي بوابة المخدرات Marijuana Has Proven to Be a Gateway Drug ) يقول فيه مع الاختصار: (لا ينبغي أن يكون مفاجئاً أن الغالبية العظمى من متعاطي الهيروين قد استخدموا الماريجوانا... عادة ما بدأ معظم متعاطي الهيروين في تعاطي المخدرات في وقت مبكر من سن المراهقة، وعادةً ما يبدأ ذلك بالكحول والماريجوانا... الأشخاص الذين يدمنون الماريجوانا أكثر عرضة بثلاث مرات من الآخرين للإدمان على الهيروين. تقنين الماريجوانا يزيد من توفّر المخدِّرات ومقبولية تعاطيها. إنّ التسويق التجاري للماريجوانا الذي ينتشر الآن ولا يزال ينمو يضر بشكل خاص بالصحة العامة... نحن على مفترق طرق. تقنين الماريجوانا سيكون له آثار سلبية دائمة على الأجيال القادمة. المخدرات المشروعة حالياً والكحول والتبغ، هي من الأسباب الرئيسة للأمراض التي يمكن الوقاية منها والوفاة في البلاد. سيؤدّي تقنين الماريجوانا إلى زيادة المشكلة الوطنية الخاصة بتعاطي المخدرات).
- وقد تكفّلت بعض المقالات العلمية الرصينة والمبنيّة على تحليل مجموعة من الحقائق المستمدَّة من الأبحاث العلمية، ببيان الرابط بين هذا وذاك، من قبيل المقال المنشور على موقع جمعية أطباء التخدير الكنديةCanadian Anesthesiologists’ Society والصادر في سنة 2016 تحت عنوان (بيولوجية الإدمان) The biology of addiction بقلم الدكتور برينت ماكنيكول Brent MacNicol. والذي يبيّن فيه كيف أن تعاطي الماريجوانا أو شرب الكحول يُحدِث تغييرات دائمة في الكيمياء العصبية للدماغ بما يؤدّي إلى الإدمان، ثم عدم كفايتها والسعي لتعاطي غيرها.
- ننتقل الآن إلى جزئية أخرى، هل التقنين سيُقلّل من الإقبال على المواد المخدِّرة، باعتبار أن كل ممنوع مرغوب، وحيث رفعنا المنع عفّت عنه النفوس؟
- هذا الأمر يحتاج إلى مسح ميداني. ولنأخذ هذا المثال. في 13 نوفمبر 2019 وبالاعتماد على (المسح الوطني حول تعاطي المخدرات والصحة NSDUH) في الولايات المتحدة، نُشرت دراسة من قِبل إحدى المراكز العلاجية للطب النفسي JAMA Psychiatry، تذكر فيها الباحثة (ماجدلينا سيردا) Magdalena Cerdá أن المسح الميداني والمقارنة ما بين نسب التعاطي والإدمان بين الولايات التي تمّ فيها تقنين التعاطي وتلك التي ما زالت تمنعه، يكشف عن أن التقنين فيها أدّى إلى المزيد من التعاطي، وربما الإدمان، خاصة بين البالغين 26 عاماً أو أكبر.
- وبعد هذا لا يصلح التحجّج بتخفيف العبء المادي من خلال التقنين، فوجود منفعة من هذا القبيل لا يمكنه أن يُقارَن بالمضار الخطيرة والتبعات المالية الكبيرة أيضاً التي ستترتّب على معالجة الإدمان وآثاره الاجتماعية.
- وبالتعبير القرآني: (وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا) كما بيّنت في الخطبة الأولى، فالمفروض أن نخلّص الفرد والأسرة نهائياً من أعباء المادة المضرّة.
- وأخيراً نأتي إلى جزئية عقوبة السجن، فهذه يمكن معالجتها بتشريع قوانين حول طريقة تخليص المتعاطين والمدمنين ممّا هُم فيه، بوضعهم في مصحّات علاجية ضمن أسس وتدابير معيّنة، لا بالسماح بالتعاطي وشرب الخمور.
- أؤكد في نهاية المطاف أنني لم أكن بصدد استقصاء كل الحجج والردود بخصوص الدعوة لتقنين بعض المواد المخدّرة والمسكرات، بل سعيت أن أرسم جانباً من معالم المواجهة الفكرية والعلمية لحجة واحدة يُقدّمها دعاة هذا المطلب، وأن أضع بين أيديكم بعض المفردات والكلمات والبحوث والمقالات العلمية التي قد تمثّل إضاءاتٍ في هذا الطريق، على أمل أن ينهض أهلُ الاختصاص بمسئولياتهم لوأد هذا المشروع المُدمِّر لمجتمعاتنا، والذي قد يستسلم له بعض الشباب فكرياً تحت وطأة بعض العناوين والشعارات الرنّانة، لنجدهم في يومٍ ما وقد اقتحموا عالم السياسة والإدارة والتشريع وهم محمّلون بمثل هذه الانحرافات الفكرية، ليحوّلوها إلى مشاريع واقعية على الأرض، ولات حين مندَم.