من هم العباد الذين اصطفاهم الله فسابقوا إلى الخيرات؟ تلاوة وتفسير الآيات 29-35 من سورة فاطر


وَٱلَّذِيۤ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ مِنَ ٱلْكِتَابِ هُوَ ٱلْحَقُّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ ٱللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ 31
- بعد الحديث عن تلاوة كتاب الله واكتساب العلم من خلاله، ذكّرت هذه الآية بالحقائق التالية:
1. القرآن وحي من الله، وفي هذا تنويه بمقام القرآن وأهميته. (أَوْحَيْنَآ)
2. عظم مقام رسول الله (ص) وشأنه، لأنه الموحى إليه كتاب الله (إِلَيْكَ).
3. ليس في هذا الكتاب النازل من عند الله شيء من الباطل، بل إن هذا هذا الكتاب يمثّل الحق
المطلق، لأنه من الله الحق.
4. هذا القرآن مع الكتب التي أنزلت على الرسل من قبل مصدرها واحد ومتّسقة من حيث الأهداف ولذا كان القرآن مصدّقاً لها، لا يلغيها بالمرّة، ولا يكذّبها، ولا يخطّئها، وإن نسخ بعض الأحكام فيها
لانتهاء صلاحية تلك الأحكام، فهذا شيء استثنائي لا يتعارض والحالة الأصلية.
(مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [البقرة:106].
- { إِنَّ ٱللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } لا ظلم في الأحكام الإلهية، لأن التفضيل فيما بين الناس من حيث العلم والأجر والشكر، ومن حيث من أقام منهم الصلاة ومن أنفق وما هي دوافع الأعمال الصالحة والتجارة مع الله وغير ذلك قائم على علم إلهي بهذا المستوى، وليس بالأحكام الظنية أو العلم الإجمالي أو الاستنتاجي.

{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ } 32
- هناك عدة احتمالات لفهم هذه الآية الشريفة
1. تبادر هذا الاحتمال إلى ذهني، ولا أدري إن قال به أحد من المفسرين، وخلاصته أن المراد من الكتاب عموم الكتاب السماوي، أو فقل جنس الكتاب السماوي لا خصوص القرآن الكريم، أو ما هو من علم الله الذي يمثّل مصدر الكتب السماوية، فقد أورث الله كل أمة من أمم المرسلين السابقين الكتاب الذي أنزل على رسولهم، فانقسموا إلى ثلاث فئات.
وهذا إنذار واستباق لعصر ما بعد رسول الله (ص) للتحذير من مآلات الأمور، كي يتحمّلوا مسئولية هذا الكتاب بشكل كامل، ولئلا يكرروا تجربة الأمم الماضية. وكانت العترة من أهل بيت النبي هم المصداق الأمثل للفئة الثالثة.
2. الاحتمال الثاني أن المراد ببالكتاب هنا خصوص القرآن الكريم، والعباد الذين اصطفاهم الله هم عموم الأمة الإسلامية أو خصوص من عاصر نزول الوحي القرآني من الأمة الإسلامية (الصحابة). وهؤلاء انقسموا إلى ثلاث فئات، وهنا أيضاً يمكن القول أن العترة الطاهرة من أهل بيت النبي كانت المصداق الأمثل للفئة الثالثة.
3. الاحتمال الثالث أن المراد بالكتاب هنا خصوص القرآن الكريم، والعباد الذين اصطفاهم الله هم خصوص العترة من أهل بيت نبيه، وهذا ما جاء في الرواية التالية.
- روى الصدوق في (عيون أخبار الرضا) عن الريان بن الصلت قال: (حضر الرضا(ع) مجلس المأمون بمرو وقد اجتمع في مجلسه جماعة من علماء أهل العراق وخراسان فقال المأمون: أخبروني عن معنى هذه الآية: [ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا]؟ فقالت العلماء : أراد الله عز وجل بذلك الأمة كلها .فقال المأمون: ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال الرضا(ع): لا أقول كما قالوا، ولكني أقول: أراد الله عز وجل بذلك العترة الطاهرة. فقال المأمون: وكيف عنى العترة من دون الأمة؟ فقال له الرضا (ع): إنه لو أراد الأمة لكانت بأجمعها في الجنة لقول الله عز وجل: [فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ ٱللَّهِ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَضْلُ ٱلْكَبِيرُ] ثم جمعهم كلهم في الجنة فقال: [جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ] الآية) 33 من سورة فاطر، وتتمتها: [وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ] (فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم). فالإمام يقول أن علينا أن نفهم الآية كالتالي: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا ٱلْكِتَابَ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا) وهم خصوص للعترة من أهل بيت النبي، فهم الذين اصطفاهم الله من بين عباده (فَمِنْهُمْ) أي من عبادنا، وليس ممن اصطفاهم (ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ بِإِذُنِ ٱللَّهِ) ولذا لم تكن الوراثة لجميع عباده (فقال المأمون: من العترة الطاهرة؟ فقال الرضا (ع): الذين وصفهم الله في كتابه فقال عز وجل: [إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً] وهم الذين قال رسول الله (ص): [إني مخلف فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما، أيها الناس لا تعلّموهم فأنهم أعلمُ منكم]).
- قد يؤيَّد هذا بأن القرآن الكريم إنما استعمل الاصطفاء لخصوص الأنبياء وأمثالهم من خواص الناس كالأوصياء، ولم يستعمل في عموم المؤمنين بهذه الرسالة مثلاً. (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ) آل عمران:33]، ولذا من الخطأ أن نقول أن العباد الذين اصطفاهم الله هم مطلق المؤمنين، بل فئة خاصة كفئة الأنبياء.
وأما الاجتباء فيمكن أن يكون لعموم المؤمنين كما قال تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ) [الحج:77-78].
ولكننا نجد أن الله تعالى يقول: (وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُواْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [البقرة:247] وهو ليس بنبي ولا بوصي، بل ملك.
- وعلى العموم، فقد جاءت الآية ببيان أن المؤمنين الذين أورثوا مسئولية القرآن الكريم والرسالة من بعد رسو الله (ص) مراتب، وأن اصطفاءهم لا يعني تحوّلهم إلى ما يشبه المعصومين، (فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِٱلْخَيْرَاتِ)، وهذه العبارة يمكنها أن تتعارض وفكرة عدالة كل الصحابة.
{ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ }33
- قيل: كلهم يدخلون الجنة، لأن المؤمنين كلهم مآلهم الجنة كما دلت عليه الأخبار التي تكاثرت. وقد روى الترمذي بسند فيه مجهولان عن أبي سعيد الخدري (أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في هذه الآية { ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات } فاطر 32 قال «هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة») قال الترمذي هذا حديث غريب لا نعرفه إلا من هذا الوجه.
- ولعل الصحيح هو دخول من يستحق ممن التزم بالقرآن وتعلّمه وعمل به، فيكون بياناً لما جاء في الآيتين 29-30: (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)، أو خصوص الفئة الثالثة السابقة بالخيرات.
{ وَقَالُواْ ٱلْحَمْدُ للَّهِ ٱلَّذِيۤ أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ } 34
- (أَذْهَبَ عَنَّا ٱلْحَزَنَ): الحزن الذي مانوا يعيشونه في الحياة الدنيا حين واجهوا مشاكلها وآلامها وأوضاعها التي كانت تثير فينا الأحزان المتنوعة، وحالات القلق والضعف البشري.. أما في الجنة فإن المؤمنين يعيشون الفرح الروحي الخالص الصافي، حيث لا أثر للحزن فيه، كما يعيشون الطمأنينة النفسية الثابتة التي لا أثر للاهتزاز فيها، وذلك بفضل ما يعيشونه من رحمة الله الواسعة حين يغفر الذنوب ويشكر على الصالحات.
{ ٱلَّذِيۤ أَحَلَّنَا دَارَ ٱلْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } 35
- فقد أحلّهم الله دار الإقامة الدائمة التي لن يتحوّلوا عنها، وهذا من فضله، لا باستحقاق منهم ووجوب عليه، وصفة هذه الدار أنه ليس فيها تعب وعناء، ولا إعياء وإجهاد، بل راحة تامة.