خطبة الجمعة 9 جمادى الآخرة 1442: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية : إيرونيموس والإسلام


- ذكرت في الخطبة الأولى أن الله سبحانه وتعالى طلب من المؤمنين أن يغفروا ويتجاوزوا ويتسامحوا مع إساءات المشركين، وأن يطمئنّوا بأنّ كلَّ شيء في عين الله، ولن يضيع حق. وإذا كان هذا هو الموقف مع أحد أخسِّ صور الخصوم، فمن باب أولى أن يكون هذا هو موقف المؤمنين مع من أدنى منهم في مستوى الخصومة عندما تصدر منهم الإساءة.
- ولذا وظّف الإمام الصادق (ع) الآية في بيان طبيعة الموقف مع الآخر المذهبي، ففي الحديث الذي رواه داود بن كثير عنه (ع) في تفسير قوله: (قُل لِّلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُون أَيَّامَ اللَّهِ) قال: (قل للذين مَننّا عليهم بمعرفتنا) أي مَن عرف مسألة الإمامة وعرف أئمته والتزم بذلك (أن يغفروا للذين لا يَعلمون) إنْ صدرت إساءة من الطرف الآخر فلا تحوّلوا الأمر إلى حرب إساءات، بل تجاوزوا واصفحوا واغفروا مِن موقع قوّة لا مِن موقع ضعف.
- وهكذا في الدائرة المذهبية الواحدة، فقد نُهينا عن اتخاذ المواقف العنيفة ضدّ بعضنا البعض، وذلك عندما يرى أحدُنا أنّ الآخر لا يتبنّى بعض الأمور التي تعتبرها أنت من الثوابت عندَك، أو ترى أنك أرقى منه منزلةً في الإيمان، وما إلى ذلك.
- عن عبدالعزيز القراطيسي: (قال لي الإمام الصادق(ع): يا عبدالعزيز، إنَّ الإيمانَ عشرُ درجات بمنزلة السُّلَّم، يُصعَد منه مِرقاة بعد مِرقاة، فلا يقولنَّ صاحبُ الإثنين لصاحبِ الواحد لستَ على شئ، حتى ينتهي إلى العاشر. فلا تُسقِط مَن هو دونك، فيُسقِطُك مَن هو فوقَك. وإذا رأيت مَن هو أسفلَ منك بدرجة فارفعْه إليك برِفق، ولا تحملنّ عليه ما لا يُطيق فتكسره، فإنّ مَن كسر مؤمناً فعليه جبرُه).
- وعنه (ع): (ما أنتم والبراءة؟! يبرأ بعضُكُم من بعض. إن المؤمنين بعضُهم أفضلُ من بعض، وبعضُهم أكثرُ صلاةٍ من بعض، وبعضُهم أنفذُ بَصَراً من بعض، وهي الدرجات، حيث قال تعالى: (هُم دَرَجاتٌ عِندَ الله)). وأما اليوم فما أسهل تهمة: فلان ما عنده عقيدة! فلان بتري! فلان بكري!
- وعن عمار بن أبي الأحوص قال: (قلت لأبي عبد الله (ع): إنّ عندنا قوماً يقولون بأمير المؤمنين، ويفضّلونه على الناس كلِّهم، وليس يصفون ما نصف من فضلكم، أنتولّاهم؟ فقال لي: نعم، في الجملة، أليس عند الله ما لم يكن عند رسول الله (ص)، ولرسول الله ما ليس عندنا، وعندنا ما ليس عندكم، وعندكم ما ليس عند غيركم؟... فلا تحملوا على صاحب السهم سهمين، ولا على صاحب السهمين ثلاثة أسهم... فتُثقلوهم وتنفِّروهم، ولكن ترفّقوا بهم وسهِّلوا لهم المدخل... أما علمت أن إمارة بني أمية كانت بالسيف والعنف والجور، وإنّ إمامتنا بالرفق والتأليف والوقار والتقية وحسن الخلطة والورع والاجتهاد، فرغّبوا الناس في دينكم وفيما أنتم فيه) أي فيما تدينون وتلتزمون به.
- هذه هي الصورة الأصيلة والعنوان الأوّلي لعلاقة أتباع الرسالة المحمدية مع غيرهم، وأتباع مدرسة أهل البيت مع غيرهم، ومع بعضهم البعض.
- نعم قد تبلغ مديات الإساءة والعُنف مستويات أعلى، أو قد تتحوّل المسألة إلى حالة قتال وحرب وسعي للقضاء على المؤمنين، ولم يمكن إيقاف العُنف إلا بعنف مقابل، حينها يختلف الموقف، وقد يتطلّب الأمر معالجة من نوع آخر، كما حصل مع مشركي قريش بعد الهجرة.
- وهذا ما يجب أن يفهمه جيداً أمثال السيد (إيرونيموس) رئيس أساقفة اليونان الذي أساء إلى الإسلام قبل أيام قليلة ضمن حديثه مع إحدى القنوات التلفزيونية، حين اعتبر أن (الإسلام ليس ديناً، والمسلمون يقفون دائماً مع الحرب. الإسلام حزب سياسي، وطموح سياسي، وليس ديناً).
- وإذا كان السيد (إيرونيموس) يستشكل على المسلمين حروبهم على عهد رسول الله (ص) مثلاً، فإن الله سبحانه بقول: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ) [الحج:39]، القتال وقع على المسلمين ابتداء بدليل قوله (يُقَاتَلُونَ)، والظلم وقع على المسلمين ابتداء بدليل قوله (بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا)، المسلمون لم يكونوا هم الظالمين... أم أن نيافته أراد لهم أن يُذبحوا كالنعاج وهم يتفرّجون، بلا حولٍ لهم ولا قوة؟
- وإذا كان السيد (إيرونيموس) يتكلم عن الفتوحات الإسلامية ما بعد عهد رسول الله (ص)، فعليه أن يراجع الدراسات التاريخية ليعرف أن هذه الفتوحات إنما جاءت كردّة فعل على مستوى العدوان والمؤامرات التي حاكها الروم والفرس على الإسلام، وأنْ يقرأ ما كتبه بعض المعاصرين لتلك الأحداث من مسيحيي البلاد المفتوحة في كتبهم، وكذلك بعض المستشرقين المنصفين الذين تحدّثوا عن روح التسامح لدى الفاتحين المسلمين، وعن إقبال أهل تلك المناطق على الإسلام، وتعاونهم مع الفاتحين ضد الروم البيزنطيين الذين يشتركون معهم في الدين، وهو ما سأعرضه بإذن الله تعالى مفصّلاً في بحثي الرمضاني لهذا العام.
- وكل ذلك يأتي التزاماً بالمبدأ القرآني الواضح: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) عندما تُقاتَلون ردّوا هذا العُدوان.. (وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [البقرة:190].
- وفي المقابل أدعوه - وأدعو مَن يحمل مثل هذه الأفكار - أن يقرأ ما كتبه (ول ديورانت) مثلاً في (قصة الحضارة) وما جاء في موسوعة (تاريخ الحضارات العام) بإشراف (موريس كروزيه) حول الحروب والقتل والحرق وصور العنف الوحشي الذي مارسه المسيحيون تجاه بعضهم البعض نتيجة الصراع المذهبي على مدى 1500 سنة تقريباً، وحول الحروب الصليبية والجرائم التي ارتكبها الصليبيون بحقّ إخوانِهم المسيحيين في القسطنطينية وفي الشرق، قبل مسلميه.
- هذا لا يعني أن العنف أصلٌ في رسالة السيد المسيح (ع)، وقد بيّن القرآن الكريم هذه الحقيقة حيث قال تعالى: (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) [المائدة:14]، أي أن رسالة المسيح بريئة من كل ذلك، ولكنّهم لمّا لم يلتزموا بها ارتكبوا ما ارتكبوا من جرائم ناتجة عن روح العداوة والبغضاء فيما بينهم.
- وأما داعش وأخواتُها فقد مللنا القول بأنَهم لا يمثّلون الإسلام في شيء، وأنّ المسلمين ذاقوا الأمرّين منهم قبل غيرِهم، وأنّهم صنيعةٌ استخباراتية لا يتحمّل الإسلامُ وِزرَها، وما جرى بالأمس في العراق خيرُ دليلٍ على ذلك.
- إنّ الرسالاتِ السماوية – بما في ذلك الإسلام - بريئة مما أُلصِق بها من تُهَم الوحشية وأصالة الحرب والعُنف فيها، فهي رسالات جاءت لهداية البشرية إلى ما فيه خيرُها، وهي مدارس الرحمة والرفق ورحابة الصدر، لا مع الذين يوافقونها فحسب، بل حتى مع الذين يخالفونها والذين أساءوا إليها، ومن هنا كان الرسل وأتباعُهم يعملون مِن منطلَق المحبة وصفاء المشاعر ولين الجانب، ومقابلة الإساءة بالإحسان، ولكنْ عندما كان يبلغ العدوان عليهم مستوىً يستوجب الردّ، كانوا أبطال الحروب الذين لا يهابون الموت، ومع هذا كلِّه ما كانوا من المعتَدين.