خطبة الجمعة 2 جمادى الآخرة 1442: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الدعاء لغير المسلم

- يتساءل البعض عن مدى مشروعية الدعاء لغير المسلم.. شخص بوذي أو هندوسي أو من أهل الكتاب، جار، أو طبيب، أو أستاذ، أو زميل، أو صديق، وما إلى ذلك، وعند التعامل معه مثلاً، أو في المناسبات الخاصة كالأعياد والزواج وأمثال ذلك، هل يجوز لك أن تقول له: الله يبارك فيك.. الله يوفقك.. ربي يسعدك؟
- وهل يجوز أن تدعو له بالمغفرة والرحمة حين تدعو لأهلك وأحبابك ومعارفك؟ وهل يجوز أن تترحّم عليه وتستغفر له بعد موته؟
- قد يستغرب البعض هذا السؤال، وقد يكون مستنكَراً مستهجَناً من قبل آخرين، فهذا صديقي أو جاري أو أستاذي أو طبيبي الذي يعالجني، أو أنه إنسان تعاملت معه ولم أجد منه إلا الطيبة.. كيف لا أدعو له؟ بل كيف يخطر على البال أن أسأل عن مشروعية ذلك، وهو في نهاية المطاف إنسان، فهل يحتاج الأمر إلى التساؤل والبحث والطرح؟
- نعم، أنا أتّفق مع المستغربين والمحتجّين.. ولكن الواقع أن هذا السؤال يدور في أذهان كثيرين، بل نجده مطروحاً بصورة غير مباشرة في القرآن الكريم، وبصورة مباشرة في الأحاديث، وقد طرحه الفقهاء في بحوثهم وفتاواهم، ولذا من المنطقي أن نطرح مثل هذا التساؤل ونحاول الإجابة عليه.
- ولكن قبل الدخول في التفاصيل، أودّ أن أنبّه إلى نقطة مهمّة جداً، وهي أن القرآن الكريم نزل في أجواء الصراع مع المشركين والمنافقين من جهة، ومع أهل الكتاب من جهة أخرى، وهذا الصراع في كثير من الأحيان كان صراع بقاء، صراع حياة أو موت، كان يتمّ فيه العدوان على النبي (ص) والمؤمنين برسالته بطرق مختلفة، اضطهاداً وحصاراً وحرباً ومؤامرات، بحيث لا تكاد الثلاث وعشرين سنة التي استغرقتها رحلة الدعوة تخلو من مثل هذا المشهد المليء بالصعوبات والعنف.
- ولذا عندما نتعامل مع نصوص القرآن التشريعية والتوجيهية لابد أن نأخذ بعين الاعتبار هذه الظروف المحيطة بنزول الآيات الشريفة، ولا يصح أن نقرأها بمعزل عنها.
- وبمعنى آخر، الآيات التي تتحدث عن الموقف السلبي من الآخر الديني وأطُر التعامل معهم، وذلك من قبيل قوله تعالى: (إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ) [الممتحنة:4] لا تتحدّث بلحاظ الاختلاف الموجود بيننا وبينهم دينياً، بل بلحاظ حالة المحاربة والعدوان الصادرة عنهم، فإنْ خلت مواقفهم من ذلك، لم يكونوا مشمولين بتلك المواقف السلبية.
- ولذا قال تعالى بعد ذلك مباشرة، لتوضيح الأمر ولرفع أي لبس قد يحصل: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) إذاً التبرّي المذكور في الآية 4 مثلاً والعداوة والبغضاء تجاه مَن؟ تجيب الآية فتقول: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة:8-9]. أي الكافرين من الأعداء المحاربين.
- وآية التعارف في سورة الحجرات يمكنها أن تمثّل إطاراً أخلاقياً للصورة العامة لفقه التعامل مع الآخر المختلف دينياً حيث يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) [الحجرات:13]. وهل يمكن تصوّر تحقق هذا التعارف من خلال فقه
وأخلاقيات الكراهية والقطيعة والنفور والاشمئزاز والتحقير والاستهزاء والسب والإهانة؟
- ومن هنا نجد النبي إبراهيم (ع) الذي أمرنا الله سبحانه بالتأسّي به، وَعَد أباه آزر المشرك بأن يستغفر له: (قَالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا) [مريم:47].
- وهذا كان هدي النبي (ص) فيما روي عنه، فعن ابن مسعود أنه قال: (كَأَنِّي أنْظُرُ إلى النبيِّ (ص) يَحْكِي نَبِيًّا مِنَ الأنْبِيَاءِ، ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فأدْمَوْهُ، وهو يَمْسَحُ الدَّمَ عن وجْهِهِ ويقولُ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فإنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ).. هذا دعاء صادر عن نبي، واستشهد به رسول الله (ص) تأييداً، وهناك عدة شواهد على مثل ذلك.
- نعم، بعد فتح مكة، والعفو عن أهلها، ودعوة أهل الجزيرة العربية للدخول في السلم إما بالإسلام أو بالتعايش السلمي تحت راية دولة الإسلام، وإصرار فئة من المشركين على المواقف العدوانية بصور مختلفة، جاء التوجيه الإلهي التالي: (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُولِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ) [التوبة:113]، هؤلاء القوم قد أقيمت عليهم الحجج والبراهين الواضحة الكاملة المرة تلو الأخرى، وعُفي عنهم المرة تلو الأخرى، ومع هذا هم مصرّون على شركهم وعلى عدائهم وعدوانهم، ولذا فقد حُكم عليهم حكماً نهائياً بأنهم من أصحاب الجحيم، بالطبع ما لم يتوبوا ويُصلحوا مواقفهم.
- ولعل البعض احتجّ أو تساءل: ألم يستغفر إبراهيم لأبيه آزر؟ فجاءت الآية اللاحقة لتوضّح الأمر: (وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) [التوبة:114]. لما اتضحت الصورة تماماً في ترسّخ حالة العداء من قبل آزر تجاه رب العالمين، وليس الشرك في حدّ ذاته، هنا لم يعد مجال للدعاء له.
- أما في عالم الأحاديث، فنجد في وسائل الشيعة أنه: (عطس رجل نصراني عند أبي عبد الله (ع) فقال له القوم: هداك الله. فقال أبوعبد الله (ع): يرحمك الله. فقالوا له: إنه نصراني!) وكأنّهم استعظموا الدعاء بالرحمة للنصراني لأنه مختلف دينياً، وكأنهم افترضوا أيضاً أنه ما دام غير مسلم فعلينا أن نتمنى له الهلاك أو العذاب أو الأذى (فقال: لا يهديه الله حتى يرحمه). أي ما المانع من الدعاء له بالرحمة، والحال أن الهداية التي دعوتم له بها هي مفردة من مفردات الرحمة؟
- إننا في الوقت الذي نسعى فيه -كمؤمنين برسالة النبي الأكرم (ص)- للمحافظة على هويّتنا الدينية والافتخار بانتمائنا للإسلام والاعتزاز بخاتمية شريعتنا الإسلامية واعتبارها المهيمنة على ما سبقها من الشرائع السماوية، وفي الوقت الذي نعتقد فيه أيضاً وجزماً بطلان كل الديانات الشركية والإلحاد واللادينية، إلا أن هذا لا يعني بحال أن تكون علاقتُنا الإنسانية بالآخر المختلف دينياً علاقة متأزّمة قائمة على الكراهية والإلغاء والقطيعة والنفور والتحقير وأمثال ذلك، بما يؤدّي إلى تصوّر تحريم الدعاء لهم بالرحمة والمغفرة والتوفيق وما شابه، ما دام أنهم لم يكونوا من المحاربين المصرّين على العدوان والتآمر ضد الإسلام وأهله، بل علينا أن نتذكّر أنه لا يمكن أن نجد لأنفسنا طريقاً إلى عقول الآخرين ما لم نجد إلى قلوبهم سبيلاً، وهل يمكن لأحد أن يفتح باب قلبٍ بالكراهية والحقد والنفور؟