ماوصف التجارة مع الله ؟ تلاوة وتفسير سورة فاطر 29-35

إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ 29-30
- بعد أن أثنى الله عز وجل على عباده العلماء في الآية السابقة حيث قال: { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ إِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ } فاطر 28 الآية، بيّن صفة هؤلاء العلماء وكيف تحقق لديهم العلم حيث قال: (إِنَّ ٱلَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ ٱللَّهِ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً).
- فمن خلال تلاوة كتاب الله تنفتح لهم آفاق العلم المكنون فيه، ويزدادون خشية من الله، فيستقيمون في حياتهم، ويحوّلون هذا العلم إلى عمل، ويقوى ارتباطاهم بالله فيقيمون الصلاة كما ينبغي لها أن تكون، ويدركون مسئولياتهم الاجتماعية فينفقون مما رزقهم الله سراً وعلانية، ولكل هذا فيوضاته الرحمانية وبركاته الربانية.
- وهذا لا يقتصر على مَن تزيى بالزي العلمائي، فالباب مفتوح للجميع، ولكن بشرط أن يبذل الجهد ويتعلّم القرآن الكريم على أسس سليمة، ويُخلص في هذا الوجه، وسيجد آثار ذلك.
- وبعد أن ذكر في الآية 28 أنه (عَزِيزٌ غَفُورٌ) ختم الآية 30 بقوله: (إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ)، فهو لا يغفر كثيراً فحسب، بل ويشكر بالعطاء الجزيل.
- يلاحظ وجود التفات من الغيبة في قوله { كِتَابَ ٱللَّهِ } إلى التكلم في قوله { مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } ولم يقل (مما رزقهم الله) لأنه المناسب للامتنان.
- { سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } فهم لا يريدون من الإِنفاق إلا مرضاة الله تعالى لا يراءون به، فهم ينفقون حيث لا يراهم أحد، وينفقون بمرأى من الناس فلا يصدّهم مشاهدة الناس عن الإِنفاق، ويغرسون هذا العمل الصالح في النفوس ويشجّعون عليه.
- تقديم السر إشارة إلى أنه أفضل لانقطاع شائبة الرياء منه.
- { يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ } خبر { إنَّ }.
- فهم يتاجرون مع الله، ومن يتاجر مع الله لا يخسر أبداً، على خلاف من يتاجر مع الناس، فقد يربح وقد يخسر، وقد يقع في شَرَك الغش والمماطلة والشيكات بلا رصيد والظروف الاقتصادية المتقلّبة وقد تظهر طرق جديدة للتجارة -كالإلكترونية- تجلب الكساد لتجارته التقليدية، وغير ذلك من المشكلات الموجودة في عالم التجارة.. أما مع الله فالتجارة دائماً رابحة ومضمونة ولا تتغير قواعدها، وواحدة من صور التجارة مع الله ما جاء في قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة:111]، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ، يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [الصف:10-13]، وحتى القرض الحسن الذي لا يتوقّع الإنسان من ورائه أي ربح ومكسب في التعامل مع الناس هو مربح مع الله: (مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ) [الحديد:11].
- ما هي بضاعة هؤلاء؟ تلاوة كتاب الله وصلاتهم وإنفاقهم سراً وعلانية والأعمال الصالحة التي يحبّها الله، وهم يتطلّعون من خلال ذلك إلى أن تكون أعمالهم كتجارة رابحة لا كساد فيها ولا ضياع ولا فشل ولا خسارة.
- (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ) أي بشرناهم بذلك وقدَّرناه لهم لنوفيهم أجورهم وزيادة: (مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ).
- والتوفية جعل الشيء وافِياً، أي تامّاً لا نقيصة فيه ولا غبن:
- والتعبير بالأجور يقرّب صورة معيّنة من صور التجارات، وهو المضاربة، حيث أن الإنسان يعمل في مُلك الله، فالجسد والقدرات العقلية والجسدية وما بيده من مال كله ملك لله، ولذا قال (مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) وما يكون للإنسان من ربح إنما تحقق من خلال ذلك، لا من خلال ملك خالص له.
- وقع هنا التفات من التكلم في قوله { مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } إلى الغيبة (لِيُوَفِّيَهُمْ ... وَيَزِيدَهُم) ولم يقل (لأوفيهم... ولأزيدهم) رجوعاً إلى سياق الغيبة في البداية من قوله { يَتْلُونَ كِتَابَ ٱللَّهِ }
- كل ذلك لأنه من شأن الله تعالى الغفران والشكران، فإنّ من صفاته الغفور الشكور، أي الكثير المغفرة والشديد الشكر. والمغفرة تأتي على تقصير العباد المطيعين، فلا أحد يكمل في طاعة الله.