خطبة الجمعة 24 جمادى الأولى 1442: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الله.. ينتصر لامرأة


- نزل القرآن بصورة متفرقة خلال سنوات البعثة النبوية الشريفة، (وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً)[الإسراء:106].
- وقد اعتبر المشركون أنّ هذا يمثّل إشكالاً في سماوية القرآن، فإذا كان القرآن كتابَ الله، فمن المفترض بكتاب الله أن يَنزل مرة واحدة، إذ أن صاحب القدرة المطلقة، وهو الله، لا يناسبه أن يُنتِج
الشيء تدريجياً، فهذه من صفات ذي القدرات المحدودة كالإنسان: (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً) [الفرقان:32].
- وقيل أنّ إشكالهم ناتج عن أنهم قد سمعوا من أهل الكتاب أن كتبهم السماوية نزلت دفعة واحدة لا بشكل تدريجي... وحيث أن هذا المُدّعى خطأ، فإمّا أن يكون أهلُ الكتاب قد خدعوهم، أو نقلوا لهم معلومة خاطئة، وإما أن يكون تأويلُنا لدافع هذا الطلب من المشركين غير سليم، وهو الأقرب..
- وأياً كان الدافع، فقد جاءهم الجواب بوضوح في بيان علّة هذا النزول التدريجي: (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً)... أي أن الله أراد أن تكون آيات القرآن:
1. سنداً للنبي وللمسلمين في مواجهة المواقف والظروف العصيبة التي يواجهونها في صراعهم الدعوي.
2. وسنداً في كشف المؤامرات التي كانت تُحاك ضدهم.
3. ولمعالجة القضايا الاجتماعية والفكرية والسلوكية والسياسية والأمنية والعسكرية والعبادية انطلاقاً من الأحداث، لا بصورة توجيهات مطلقة، ومعلومات نظرية بعيدة عن الواقع.
- هذا الأسلوب في نزول القرآن كان يؤدي إلى تخفيف العبء عن رسول الله، ويقوّي موقفه، ويسددّه في إجراءاته، وهو ما قد نفهمه من قوله: (لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ).
- ولذا نجد في القرآن الكريم آيات تتناول وقائع حدثت، وتوضِّح الأسباب أحياناً، وتضع الحلول، سواء أكان الموضوع في البُعد الاجتماعي أو الفكري أو الدعوي أو العسكري أو غير ذلك، ومن الأمثلة في:
- البُعد الاجتماعي: معالجة قضية المرأة المشتكية من زوجها: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ)[المجادلة:1]. رب العالمين بعظمته وفي عليائه يُصدر بياناً سماوياً يُقدِّم من خلاله طريقة معالجة مشكلة اجتماعية فردية، لتكون منطلقاً لتقديم تشريع وتوجيهات أخلاقية يتم من خلالها حلّ ما شابهها من مشكلات.
- البُعد الفكري: معالجة قضية القتال في الشهر الحرام: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة:217].
- البُعد الدعوي: بيان بعض أسس الحوار مع أهل الكتاب وطريقة معالجة القضايا المختَلف عليها: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران:64].
- البُعد السياسي: في مسألة الولاءات واتخاذ المستشارين: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) [آل عمران:118].
- البُعد العسكري: في معالجة موضوع الاستعداد والحرب النفسية: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ) [النساء:102]... وغير ذلك.
- ومن هنا نقول بكل وضوح أنّ الخطاب القرآني ما كان خطاباً روحانياً خالصاً لكي لا يناسب إلا أصحاب النزعة الصوفية الانعزالية.. ولا بالخطاب الذي يُسطِّر النظريات بعيداً عن عالم الواقع وبالتحليق في عالم الفرضيات الفلسفية.. ولا بالخطاب الإنشائي الذي لا يتناغم إلا مع عالم الخيال، أو الذي لا يُغني ولا يُشبع من جوع.
- فالخطاب القرآني خطاب واقعي يعالج قضايا الساعة، ويذكر أسس التعامل مع التحديات المختلفة التي قد يواجهها الإنسان المؤمن في أي زمن.
- من هنا نذكّر بضرورة إعادة النظر في الخطاب الإسلامي، من حيث القضايا التي يعالجها، وفي كيفية المعالجة، وفي أسلوب العرض، وفي وسائله، وفي المواكبة السريعة للمستجدات الفكرية والتحديات السياسية والأمنية والأخلاقية التي يواجهها الناس اليوم، مسلمون كانوا أم غير مسلمين، وسواء أكانوا في العالم الإسلامي أو مِن المغتربين، لأنّ مِن المفترض بالخطاب الإسلامي أن يُمثِّل مدرسة سماوية ذات رسالة إنسانية عامة، تماماً كما كان القرآن الكريم في بعض خطاباته وآياته التي لم تكن مؤطَّرةً في حدود جغرافية أو عقَدية معينة، وقد صُدِّرت تلك الآيات بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) (يَا بَنِي آدَمَ) (يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ). وهذا مهم جداً في تحقيق عالمية الرسالة الإسلامية: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء:107] في مقابل محدودية الجغرافيا التي بُعث فيها النبي(ص): (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولا مِّنْهُمْ)[الجمعة:2]. ولنلاحظ كيف أنّ المؤسسة الفاتيكانية متمثلةً في البابا تقدّم خطاباتها العالمية في معايشةٍ مع قضايا الناس جميعاً ولاسيما المحرومين منهم، وبلغةٍ إنسانية رحيمة، فتتلاقفها وسائل الإعلام العربية وغيرها، بينما يندر أن تقوم كبريات مؤسساتنا الدينية بهذا الدور الفعّال والمواكب للأحداث والتحديات، أو أنها تُقصِر خطاباتِها على المؤمنين بمدرستها العقدية فقط دون سائر المسلمين، فضلاً عن سائر البشرية. إنّ هذه الحقيقة تجعلنا نعترف أن خطابنا الإسلامي المعاصر يسير مبتعداً عن نسق الخطاب القرآني، وعن عالمية الرسالة الإسلامية التي حمل مشعلها النبي الكرم وأهل بيته(ع).