خطبة الجمعة 17 جمادى الأولى 1442: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: حين تنطق الشياطين


- تتعالى هذه الأيام صوت الفتنة الطائفية بمحرِّكات مختلفة، بعضها محلّي، وبعضها مستورد، وهي ليست بريئة في منطلقاتها، ولا هي عفوية في توقيتها.
- منذ بداية هذا العام الهجري، برزت من قبل بعض الشخصيات الدينية من إخواننا من أهل السنة خطابات ودعوات إيجابية ترتبط بالعلاقة بين السنة والشيعة، من خلال الدعوة إلى نبذ الروح
الطائفية، والتركيز على المشترَكات، وعدم تحويل التاريخ إلى منطلَق ومادة للصراع في الحاضر.
- ثم جاءت الانتخابات البرلمانية في الكويت، وواحدة من معطياتها الإيجابية القوية تمثّلت في كسر الحاجز الطائفي، ولو بشكل جزئي، وفي نطاق محدود.
- وبموازاة هذا وذاك، تشهد المنطقة حالة حُمّى التطبيع مع الكيان الصهيوني، وفي مقابلها حالة من الرفض والاستياء الشعبي الواسع من كل محاولات تسويق التطبيع وإظهار الصهاينة بمظهر الشركاء الطيبين والأبرياء والمظنون بهم ظن السوء، والذين سيجلبون معهم الخير إلى المنطقة.
- كل هذه المعطيات تقضّ مضجع الذين طالما عزفوا على الوتر الطائفي لتحقيق مصالحهم، وتمرير مشاريعِهم، ولتحقيق ذلك وظّفوا أفراداً وجهات ذات صبغة دينية أو إعلامية من حيث يعلمون أو يجهلون.
- والوصفة دائماً جاهزة... خلطة من المعطيات التاريخية، والتهييج العاطفي، وإثارة النعرات، وتحميل الحاضرين جرائر الماضين، وشيء من السباب واللعنات، وإعادة إنتاج مقاطع مرئية، واستغلال المناسبات التاريخية... ويصبح كل شيء جاهزاً لتفجير الأوضاع.
- أما مَن ينادي بتجاوز الفتن، وضرورة التنبّه لمخطّطات الأعداء، ويعمل على تقريب الرؤى، ووحدة الصف، ويدعو إلى العقلانية، فهو دائماً مستهدَف، وفي مرمى الاتّهام بالخروج عن الملّة، أو الطمع في الرئاسة أو الشهرة، أو الانحياز إلى الطرف الآخر، وما شاكل ذلك.
- يجب أن ندرك بوضوح، ونعلنها بوضوح، أننا أمام منطقين، منطق رحماني، ومنطق شيطاني، وقد بيّن الله (سبحانه وتعالى) ذلك في قوله: (يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ) [البقرة:208].
- فكلمة (السِّلْمِ) تعني الوفاق الاجتماعي الذي يبتعد عن جوّ الصراع والخلاف والقتال، ويدفع بالمجتمع بعيداً عمّا يفرّقه ويدمّر نسيجه المتلاحِم والمتناغم.
- وحتى لو كان المراد من (السِّلْمِ) هنا – بحسب بعض المفسّرين - هو التسليم لأمر الله (تعالى) لا بالمعنى السابق، فإنّ مِن التسليم لأمر الله أن نلتزم بقوله (سبحانه): (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّه جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ) [آل عمران:103]... هذا هو المنطق الرحماني.
- (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَآءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران:105]... فالمنطق الرحماني هو أن يعيش المؤمنون بالرسالة المحمدية - على صاحبها وآله آلاف التحية والصلوات - في أجواء السلم في علاقاتهم ببعضهم البعض، فلا يفسحوا المجال للخصومة والنزاع أن يحكما حياتَهم، لا سيما الخلافات المذهبية في داخل الدِّين الواحد، فإنها تُفرّق النّاس، وتجعل من كلّ فئة من الفئات قوّةً تخاصم الفئة الأخرى؛ فيؤدّي ذلك إلى ضعف الدِّين، لأنَّ كلّ طاقة دينية تضرب طاقة دينية أخرى، تساهم في النتيجة في إهدار الطاقات الدينية لمصلحة القضايا الشخصية، أو لمصالح المتربّصين بالدين.
- وهذا الدخول في السِّلم كافة لا يتحقق بشكل راسخ من خلال المجاملة والعاطفة والهروب من تشخيص ومعالجة منابع الخلل، لأنّ السِّلم الذي يقوم على ذلك لا يمكن أن يثبت أمام التجربة، ولا يستطيع أن يصمد أمام الرياح والعواصف، وهو إنما يتحقق من خلال البناء الفكري السليم له.
- ولعل جزءً من مشكلتنا وتكرّر تجاربنا المؤلمة في هذا الإطار كلّما ارتفع صوت الفتنة، ونجم قرنٌ للشيطان، هو غياب المعالجة الفكرية العميقة والسليمة.
- وهكذا نُدرك أن المنطق الرحماني شعاره: (يَـأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً) إنّ إيمانَكم يُحتِّم عليكم العمل على تحقيق الوفاق الاجتماعي، والابتعاد عن كل ما من شأنه أن يدمِّر هذا المشروع الإلهي أو يزعزع أركانَه.. ويقابلُه المنطق الشيطاني الذي حذّرَت منه الآية: (وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)، فيتواجه المؤمن مع المؤمن باسم الإيمان، بتسويل الشيطان له بأنه يحارب الانحراف لدى المؤمن، ولكنَّه لو دقّق النظر، لاكتشف أنه يعاديه على أساس هواه، أو نتيجةَ عُقدةٍ ما. وهكذا يسوّل الشيطان إثارة الخلافات الطائفية بين المسلمين، بالمستوى الذي يؤدّي إلى التخاصم والتنازع، وذلك بحجّة الدفاع عن الحقّ، في ما يوحيه الشيطان للمعتدي، تماماً ككثير من كلمات الحقّ التي يُقصد بها الباطل، أو تتحرّك في خدمته. وفي ضوء ذلك، كان التأكيد الدائم من اللّه في آياته على مراعاة الدقة في التعامل مع الشيطان في كلّ خطواته، لأنه يسلك أخفى الطرق وأدقّ الوسائل في النفاذ إلى وعي الإنسان وفكره، بحيث يتركه ضائعاً بين طريق الحقّ والباطل لتشابه المعالم والملامح بين الطريقين: (وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا) [الإسراء:53].