خطبة الجمعة 10 جمادى الأولى 1442: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: وما أدراك ما مريم؟!


- اصطفى الله (عز وجل) السيدة مريم ابنة عمران (ع) من بين كل الرجال والنساء في زمانها: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ) اصطفاها لتكون في خدمة بيتٍ عظيمٍ من بيوته (وَطَهَّرَكِ) خلال فترة إعدادِها في بيته منذ طفولتها الأولى لتكون مهيّأة ومُعدّة لحمل المسئولية العظيمة (وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ) لتكون أمّاً لولدٍ يولد من غير أب، هو المسيح (ع)، وليكون هذا الحمل ولتكون هذه الولادة آية من آيات القدرة الإلهية، وليرى الناس من خلال مخالفة السنة البشرية لحصول حَمل أنثى دون أن يقربها ذكر، مثالاً للقدرة الإلهية على الخلق والبعث.
- بالطبع، فإنّ هذا الاصطفاء الإلهي لم يأتِ من فراغ، ولم يتحقّق ذلك التطهير من دون سبب، بل لِمَا كانت تتمتّع به هذه السيدة من صفاتٍ جَعلتْها في مصافِّ المصطفَين من أنبياء الله ورسله... وقد ظهر ذلك منذ بداية نشأتها. قال تعالى: (وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ) [آل عمران:44].... فلماذا يتنافسون على كفالتها ويقترعون فيما بينهم لولا أنّ الله قد جعل في هذه الطفلة اليتيمة من الصفات والعلامات ما يدفعهم لذلك؟
- ثم يُخبرنا القرآن أنّ الله (سبحانه) أرسل إليها ملائكتَه في أكثر من مناسبة يحملون إليها كلامَه، كما في آية الاصطفاء السابقة، وكما في قوله: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا، فَاتَّخَذَتْ مِن دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) [مريم:16-17].
- هذا الاصطفاء، وهذه الكرامات الإلهية، وهذه الطهارة الروحية والسلوكية في مرتبتها العُليا، لم تمنعها مِن أن تقف – حيث أراد الله (عز وجل) لها أن تقف – لتحقِّق الإرادة الإلهية فيما له علاقة بالرسالة: (فَأَتَتْ بِهِ) أي بمولودها الذي قدّره الله من غير أب (قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا، يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا، فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا، قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا) [مريم:27-30].
- موقفٌ من أشدّ المواقف التي قد تواجهها في الحياة فتاةٌ طاهرة، بل وفي أعلى درجات الطُّهر، وتُهمةٌ مِن أصعب التُّهم التي يمكن أن تصبر عليها سيدةٌ عفيفة، بل سيدةٌ كانت تكلِّمُها الملائكة.
- ومع هذا كلِّه، لم تتأخّر السيد مريم (ع) في أن تؤدّي ما عليها من مسئولية إلهية أمام الملأ، على الرغم من حِجابِها وسِترها وعفّتها وطهارتها.
- وهكذا وقفت موقفَ المسئولية مولاتُنا الزهراء (ع) التي نالت مقام الاصطفاء الإلهي، كما نالت مقام التطهير في أعلى درجاته، إذ قال (تعالى): (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا) [الأحزاب:33].
- وقفت لتؤدّي ما عليها من مسئولية إلهية أمام الملأ، على الرغم من حِجابِها وسِترهِا وعفّتها وطهارتها، فـ (لاثت خمارَها على رأسها، واشتملت بجلبابها، وأقبلت في لمّة من حفدتها ونساء قومها، تطأ ذيولَها، ما تخرم مشيتها مشية رسول الله (ص)، حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم، فنيطت دونها ملاءة، فجلست، ثم أنّت أنّةً أجهش لها القوم بالبكاء، فارتجّ المجلس، ثم أمهلت هنيئة، حتى إذا سكن نشيجُ القوم وهدأت فورتهم، افتتحت الكلام بحمد الله والثناء عليه والصلاة على رسول الله(ص)، فعاد القوم في بكائهم، فلمّا أمسكوا عادت في كلامها، فقالت(ع)....) إلخ ما جاء ذِكره في خطبتها المعروفة بالخطبة الفدكية.
- وعلى درب الزهراء سارت ابنتُها العقيلةُ زينب، التي عندما حانت ساعةُ تحمّلِها المسئولية، لم يمنعْها حياؤُها وطُهرُها وحِجابُها وسِترُها من أن تَنطق بالحق أمام الملأ. قال حذيم الأسدي: (لم أرَ والله خَفِرةً) أي شديدة الحياء، وهذا كان الانطباع الذي خرج به حذيم من خلال مشاهدته لسلوك العقيلة زينب ومنطقِها (قطُّ أنطقَ منها، كأنّها تنطقُ وتُفرغُ على لسان علي (ع)، وقد أشارت إلى الناس بأن انصتوا، فارتدّت الأنفاس وسكنَت الأجراس) ثم تكلّمت بما شاءت لبيان الحق.
- وهكذا عندما وقفَت بين يدي الطاغوت في الكوفة، تجلّت عظمتُها، حيث أجابت على سؤاله إذ قال وهو يعيش نشوةَ النصر، وسَكْرة البطَر: (كَيْفَ رَأَيْتِ صُنْعَ اللَّهِ بِأَخِيكِ وَأَهْلِ بَيْتِكِ؟)، فما كان منها إلا أن أجابت بمنطق القرآن وعزّة الإسلام وقوة الحق وثبات الجَنان: (مَا رَأَيْتُ إِلَّا جَمِيلًا، هَؤُلَاءِ قَوْمٌ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْقَتْلَ فَبَرَزُوا إِلَى مَضَاجِعِهِمْ، وَسَيَجْمَعُ اللَّهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُمْ فَتُحَاجُّ وَتُخَاصَمُ، فَانْظُرْ لِمَنِ الْفَلْجُ يَوْمَئِذٍ، ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا ابْنَ مَرْجَانَةَ).
- إنها قِممُ الطهارة والحياء والعفّة والستر، البتولُ مريم، والزهراءُ فاطمة، والعقيلةُ زينب، قممٌ عاشت الطهارةَ في أسمى صُورِها، والحياءَ في أجملِ معانيها، والعفّةَ في أشدِّ حدودِها، والسِّترَ في أشملِ ملامِحِها، إلا أنّ ذلك كلَّه لم يمنعْها من الانطلاق في تحمُّلِ المسئوليةِ الرساليةِ، وفي أشدِّ الظروف صعوبةً، لأنها قِمَمٌ فقِهَت أنّ التزامَها بالستر الشرعي لا يعني تعطيلَ طاقاتِها حيثُ يريد اللهُ (عز وجل) وفي رضاه.