خطبة الجمعة 10 جمادى الأولى 1442: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: نيّتك خيرٌ من عملك


- عن النبي الأكرم (ص) أنه قال: (نيةُ المؤمن خيرٌ مِن عمله، وإنّ الله عز وجل ليُعطي العبدَ على نيتِه ما لا يُعطيه على عملِه).
- عندما نطالع قصةَ آل عمران في القرآن الكريم، يتراءى لنا مصداقٌ من مصاديق ما جاء في هذا الحديث النبوي الشريف.
- فزوجة عمران عندما علمت بأمْر حَمْلِها، تمنّت أن يكون ما في بطنها مولوداً ذَكراً، لا احتقاراً للأنثى، بل لأنها تمنّت أمراً لا يتحقَّق – بحسب الأعراف القائمة حينذاك - إلا لذَكر: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [آل عمران:35].
- لقد أرادت أن تكون نشأةُ هذا المولود في بيتٍ من بيوت الله، في بيت المقدِس، وأن يتربّى منذ طفولته المبكّرة في الأجواء الروحانية والإيمانية، وأن يُسخِّر حياتَه للرسالة، ولطلب العلم، بعيداً عن الأجواء المستغرقةِ في المادّيات، والحياةِ العابثةِ واللاهية.
- وكانت المفاجأة أنها على الرغم من نذرها وأمنيّتها في أن يكون المولود ذكراً، فإذا به أنثى، وأنّى للأنثى أن تُحقِّق ذلك النذر؟! (قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى) [آل عمران:36].
- ولكنّ هذه السيدة الجليلة أصرّت على المضيّ في مشروعِها، فأسمَت ابنتَها (مريم)، أي العابدة، وواجهت أحبار اليهود حين امتنعوا عن قبولها لتكون في خدمة بيت الله، فهم لا يملكون الدليل على الرفض، إذ ليس بين أيديهم تشريعٌ يمنع ذلك، والأعراف ليست بحُجّة... ونجحت فيما أرادت.
- وتحققت أمنيتُها حتى غدت ابنتُها مريم كما قال تعالى: (فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ) [آل عمران:37]، وكما قال سبحانه: (وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ) [آل عمران:42].
- والولدُ الذي تمنّته مِن قبلُ، رُزقَت به ابنتُها مِن بعدُ: (إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) [آل عمران:45].
- بل إنّ هذه الأنثى كانت سبباً في ولادة نبيٍّ مبارك، هو يحيى: (هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء، فَنَادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ)[آل عمران:38-39].
- وهكذا تفرّع كلُّ هذا الخير من نية خالصة لامرأة عمران.. نبيّان من أعظم الأنبياء، يحيى وعيسى، وسيدةٌ اصطفاها الله وطهّرها فكانت واحدة من أربعٍ، هنّ خيرُ النساء على مرّ التاريخ، تطوف حولها الملائكة وتخدمها وترعاها وتبشِّرها.
- وبذا نفهم معنى ذلك الهدي النبوي (نيةُ المؤمن خيرٌ مِن عمله)، فقد تكون النية الخالصة لوجه الله تعالى في لحظةٍ روحانيةٍ صادقة، ذاتَ أثرٍ عظيم يفوق بمراتب ما نويناه، ويتجاوز بكثير نتائج الجهدِ المحدودِ الذي بذلناه، بل قد لا تظهر ثمرتُه الكاملة على أيدينا، إذا قدّر الله لها أن تكتمل في جيلٍ لاحق، ولكن لولا تلك النية وتلك البذرة التي بذرناها، لم يكن لتلك النتيجة العظيمة أن تتحقَّق. فلا تحتقِروا أُمنيّةَ خيرٍ في لحظةِ صفاءِ الروح، ولا تستصغِروا عملاً ما قد تحتقره العيون، فقد يكون الخيرُ كلُّ الخير فيه، ومن حيث لم نحتسِب.