كيف سخر الله الريح والجن لسليمان (ع)؟ وماذا صنعوا له؟ تتمة تفسير الآيات 10-14 من سورة سبأ


وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ 12
- العطف على{ ولقد آتينا داود منا فضلاً } سبأ 10 والمناسبة مثل مناسبة ذكر داود فإن سليمان كان موصوفاً بالإِنابة قال تعالى{ ثم أناب } في سورة ص 34.
- { الريح } التقدير وسخرنا لسليمان الريح. عطف على (وألنا له الحديد).
- ومعنى تسخيره الريح خلق ريح تلائم سيرَ سفائنه للغزو أو التجارة، فجعل الله لمراسيه في شطوط فلسطين رياحاً موسمية تهبّ شهراً مشرّقة لتذهب في ذلك الموسم سفنه، وتهبّ شهراً مغرّبة لترجع سفنه إلى شواطىء فلسطين كما قال تعالى{ ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها } في سورة الأنبياء 81.
- فأطلق الغدوّ على الانصراف والانطلاق من المكان تشبيهاً بخروج الماشية للرعي في الصباح وهو وقت خروجها، أو تشبيهاً بغدّو الناس في الصباح. وأطلق الرواح على الرجوع، لأن عرفهم أن رواح الماشية يكون في المساء.
- ( وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ) { القِطْر } النحاس المُذاب. وتقدم في قوله تعالى{ قال آتوني أفرغ عليه قطراً } في سورة الكهف 96. والإِسالة جعل الشيء سائلاً، و { عين القطر } ليست عيناً حقيقة ولكنها مستعارة لمصب ما يصهر في مصانعه من النحاس حتى يكون النحاس المذاب سائلاً خارجاً من الأنابيب كما يخرج الماء من العين لشدة إصهار النحاس وتَوالي إصهاره فلا يزال يسيل ليصنع له آنية وأسلحة ودَرقاً، وما ذلك إلا بإذابة وإصهار خارقيْن للمعتاد ، وذلك ما لم يؤته مَلك من ملوك زمانه.
- ويجوز أن يكون السيلان مستعاراً لكثرة القِطر كثرة تشبه كثرة ماء العيون والأنهار.
{ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ } يجوز أن يكون عطفاً على جملة { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ } وكأنه قال: (وجعلنا من الجن من يعمل....).
-( مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ) يخدمه ويطيعه. يقال أنا بين يديك، أي مطيع، ولا يقتضي هذا أن يكون عملتُه الجنّ وحدهم بل أن من عملته الجن، وفي آية النمل 17 (من الجن والإِنس والطير).
- (وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا) الزيغ تجاوز الحد والطريق، والمعنى من يَعْص أمرنا الجاري على لسان سليمان. وذِكر الجن في جند سليمان عليه السلام تقدم في سورة النمل.
- (نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ) أي عذاباً كعذاب السعير، أي كعذاب جهنم، وأما عذاب جهنم فإنما يكون حقيقة يوم الحساب.
يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ 13
-{ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ } بيان لطبيعة بعض الأعمال التي كانوا يقومون بها كما جاء في الآية السابقة في قوله تعالى { وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ } سبأ 12.
- المحاريب جمع محراب، وهو الحصن الذي يحارب منه العدوُّ والمهاجِم للمدينة، أو لأنه يرمى من شرفاته بالحِراب، ثم أطلق على القصر الحصين. وهذا المعنى هو المراد في هذه الآية.
ثم أطلق المحراب على الذي يُخْتَلَى فيه للعبادة فهو بمنزلة المسجد أو المصلى الخاص، قال تعالى حول زكريا { فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب } وتقدم في سورة آل عمران 39.
- وكان لداود محراب للعبادة قال تعالى{ وهل أتاك نبأ الخصم إذ تسوروا المحراب } ص 21.
- وأما إطلاق المحراب على الموضع من المسجد الذي يقف فيه الإِمامُ الذي يؤمّ الناس، يُجعل مثل كوة في حائط القبلة ، فتسمية ذلك محراباً لربما جاءت في المائة الثانية.
- والمظنون أنه حدث في زمن الأمويين وكانوا يسمونه الطاقَ أو الطاقَة، والمذبح، والمحراب موضع ذبح القربان في الكنيسة، والمذبح والمحراب مقتبسة من اليهود.
- والذي يظهر أن المسلمين ابتدأوا فجعلوا طاقات صغيرة علامة على القبلة لئلا يضل الداخل إلى المسجد يريد الصلاة، وقيل أن أول وضعه كان عند بناء المسجد الأموي في دمشق، ثم إن الخليفة الوليد بن عبد الملك أمر بجعله في المسجد النبوي حين وسّعه وأعاد بناءه.
- والتماثيل للحيوان مثل الأسود، فقد كان كرسي سليمان محفوفاً بتماثيل أُسود أربعة عشر كما وصف في الإِصحاح العاشر من سفر الملوك الأول.
- وكان قد جَعل في الهيكل جابية عظيمة (حوض ماء) من نحاس مصقول مرفوعة على اثنتي عشرة صورة ثور من نحاس.
- ولم تكن التماثيل المجسمة محرَّمَة الاستعمال في الشرائع السابقة، وقد حرمها الإِسلام لأن الإِسلام أمعن في قطع دَابر الشرك لشدة تمكن الشرك من نفوس العرب وغيرهم.
- وفي رواية عن أبان بن عثمان عن الفضل أبي العباس قال قلت لأبي جعفر عليه السلام { يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب } قال ما هي تماثيل الرجال والنساء ولكنها تماثيل الشجر وشبهه.
- (وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ) والجفان جمع جفنة، وهي القصعة العظيمة. وقدرت الجفنة في التوراة بأنها تسع (أربعين) بَثَّا، وقُدِّر ذلك بـ 230 جالون. وشبهت الجفان في عظمتها وسعتها بالجوابي. وهي جمع جابية وهي الحوض العظيم الواسع العميق الذي يجمع فيه الماء لسقي الأشجار والزروع. قيل أن الجفان المذكورة في الهيكل المعروف لأجل وضع الماء ليغلسوا فيها ما يقربونه من المحرَقات كما في الإِصحاح الرابع من سفر الأيام الثاني.
- ولربما نقول أنها أواني تقديم الطعام، بلحاظ ذكر القدور لاحقاً.
- (ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً) مقول قول محذوف، أي قلنا اعملوا يا آل داود، ومفعول { اعملوا } محذوف دل عليه قوله { شكراً }. وتقديره اعملوا صالحاً شكراً لله.
- { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } حثّ على الاهتمام بالعمل الصالح.
{ فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ ٱلْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَىٰ مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ ٱلْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ٱلْغَيْبَ مَا لَبِثُواْ فِي ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ } 14
{ دَابَّةُ الأَرْضِ } هي الأَرَضَة : سوس ينخر الخشب.
- وقد سخر الله لمنساة سليمان كثيراً من السُرْف فتعَجَّل لها النخر، لأن الحاشية يفتقدونه لو تأخر كثيراً.
- (مِنسَأَتَهُ) هي العَصا العظيمة
{ ٱلْعَذَابِ ٱلْمُهِينِ } المذل، أي المؤلم المتعب ، وهذا إبطال لاعتقاد العامة يومئذٍ وما يعتقده المشركون أن الجن يعلمون الغيب، فلذلك كان المشركون يستعلِمون المغيبات من الكهان، ويزعمون أن لكل كاهن جِنِّيًّا يأتيه بأخبار الغيب.