خطبة الجمعة 20 ربيع الأول 1442: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: الوصية الإلهية.. ولا تتفرقوا


- ما درجة الأهمية التي تحتلّها مسألة الوحدة وعدم التشرذم والتفرّق بحسب القرآن الكريم؟
- استقراء الآيات الشريفة يكشف لنا مدى أهمية وحساسية هذه المسألة في نظر القرآن الكريم وبما يفوق تصوّرنا، لاسيما بلحاظ أن العناية بها كانت ممتدة في الزمان عبر تاريخ الرسالات.
- وفيما يلي نماذج من تلك الآيات:
- الشاهد الأول: الآية التالية تشمل رسالة نوح وإبراهيم وموسى وعيسى (ع) ومحمد (ص): (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) [الشورى: 13].
- لاحظوا أعزائي مضمون الوصية الإلهية عبر آلاف السنين: لا تحوّلوا انتماءكم للدين إلى سبب ومادة للتفرّق... لا تنقسموا وتتشظّوا وتتحول العلاقة فيما بينكم إلى عداوة وبغضاء بعد أن عمل الدين على التوحيد فيما بينكم... ألا تعكس هذه الآية مدى أهمية هذه الوحدة؟
- لقد كانت رسالة الأنبياء (ع) دائماً هي الدعوة إلى الوحدة والتآلف والتحذير من تكرار تجارب السابقين الذين خالفوا هذه الوصية الإلهية: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا... وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ
وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ) [آل عمران:103-105].
- وقدّم القرآن نموذج ما جرى لبعض أتباع رسالة السيد المسيح (ع): (وَمِنَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) [المائدة:14] ليكون بمثابة النموذج العملي الذي كانوا يعايشونه في زمن نزول الآية.
- الشاهد الثاني: فيما يخص رسالة النبي موسى (ع) وأتباعه، نجد أنه وصّى أخاه وخليفته على قومه قائلا:ً (اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ) [الأعراف:142]. ولكنه بعد أربعين ليلة حين عاد إليهم وجد أن السامري قد صنع عجلاً، وعبده القوم: (قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا، أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي، قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي) [طه:92-94].
- إلى هذه الدرجة مسألة الوحدة مهمة بحيث أن هارون (ع) صار بين خيارين، أن يتخذ خطوات للمواجهة بما قد يشقّ الصف ويُحدث تحزّبات وصراعات بينيّة، وإن كان يعيد من خلالها مجموعة إلى توحيد الله، وبين أن ينتظر عودة موسى (ع) ليحسم الأمر دون ترتّب حالة الانشقاق والتصدّع الداخلي، وإن كان هذا سيؤدي إلى استمرار القوم على شركهم لأيام قادمة!
- وفعلاً فضّل هارون الخيار الثاني، مع أن المسألة كانت تمسّ إيمان القوم بشكل مباشر، إذ أنهم كانوا قد انتقلوا من توحيد الله إلى الشرك!
- وعندما استمع موسى إلى هذا العذر تقبّله، مما يبيّن أنه كان الخيار السليم في وقته.
- هذا يعكس مدى أهمية مسألة الوحدة، وأن يَحسب لها الإنسان ألف حساب قبل أن يتّخذ خطوة في اتجاهٍ ما، ولو كان الدافع لتلك الخطوة في نفسه حسناً وضرورياً، ولكن لربما يحتاج إلى
التأجيل، أو ظروف أفضل، أو بيئة أنسب، أو أسلوب آخر.
- الشاهد الثالث: تأسيس أماكن العبادة والمحافظة عليها واحدة من غايات الرسالات، إلى درجة أن الأمر قد يستدعي الدعوة إلى قتال المعتدين حفاظاً عليها: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّه وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:39-40].
- ولكن عندما يؤسَّس مسجد لغايات سلبية، ومن بينها التفريق بين المؤمنين، فإن الموقف منه سيكون سلبياً: (وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ، لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا) [التوبة:107-108].
- إن الشواهد القرآنية على مدى أهمية مسألة الوحدة بين المؤمنين بدين الله وتجريم العاملين عن عمد، أو اتباعٍ للأهواء على زرع الفرقة والعداوة والبغضاء بينهم كثيرة، وهي بالإضافة إلى ذلك شديدة في خطابها، وممتدة عبر تاريخ الرسالات، وهي وصية الله لنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ورسولنا الأكرم (ص)، فهل يبقى بعد ذلك أيُّ عذرٍ للذين لا يُبدون أية مبالاة لهذه المسألة، بل وقد يعملون على خلافها بذرائع لا تصمد أمام هذه الحقيقة القرآنية؟ ولنلتفت إلى أن هذا الحديث عن ضرورة المحافظة على الوحدة لا تعني علاقتنا مع المختلف مذهبياً فحسب، بل إن معالجة هذه المسألة في ما بين المذهب الواحد ضرورة أيضاً وحتم، وهو ما للأسف انعكس بصورة سلبية مؤخراً، إذ وجدنا أنه في الوقت الذي حرص فيه البعض على إرسال خطابات الوحدة بين المذاهب في ذكرى مولد النبي (ص)، لم يتوانَوا في نفس الوقت تحديداً عن إرسال ما يعمّق الخلافات الشيعية الشيعية.. ولذا ندعوهم بكل محبة إلى مراجعة أنفسهم في لحظة محاسبة صادقة وبعيدة عن التشنّج في الموقف... رسالة أخيرة... قد لا نكون أحياناً من المحرّكين ابتداءً للخلافات، ولكن من خلال إعادة النشر والمشاركة وأمثال ذلك عبر وسائل التواصل نكون من المساهمين في ذلك فعلياً، ونناقض أنفسَنا ما بين النقد بالقول وبين ما نمارسه على أرض الواقع.. ألم يحن الوقت للتوقف عن ذلك نهائياً؟ كبسة زر تفصلك بين أن تساهم في الفتنة وبين أن تُميتَها.