لماذا قدّم الله النبيين داود وسليمان كنموذجين في الآيات 10-14 من سورة سبأ؟


(وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلاً يٰجِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَٱلطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ) 10
- قال بعض المفسرين أن مناسبة الانتقال من الكلام السابق حول الآخرة وصفات الله إلى ذكر داود خفيَّة.
- وقال البعض أن ذكر الله نعمته على داود وسليمان احتجاجاً على ما منح محمداً، أي لا تستبعدوا هذا فقد تفضلنا على عبيدنا قديماً.
- وقال آخرون أنه لما ذكر الله تعالى في الآية 9 (إن في ذلك لآية لكل عبد منيب) جاء بداود كمثال على عباده المنيبين المتفكرين في آيات الله، قال تعالى (واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أواب) سورة ص: 17، وقال (فاستغفر ربه وخرّ راكعاً وأناب) ص: 24، فلإِنابته وتأويبه أنعم الله عليه بنعم الدنيا والآخرة وباركه وبارك نسله.
- وحيث كان داود راعياً للأغنام فاصبح نبياً وملكاً وبمُلك مميز، فهي إيماءة إلى بشارة النبي (ص) بأنه بعد تكذيب قومه وضيق حاله منهم سيؤول شأنه إلى عزة عظيمة وتأسيس ملك أمة عظيمة كما آلت حال داود، وذلك الإِيماء أوضح في قوله تعالى { اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داود ذا الأيد إنه أوّاب } الآية في سورة ص 17.
- وقد ذكرت أن من الغايات الرئيسة للسورة هي مسألة الآخرة والتي جاءت في الآيات التسعة الأولى وستتكرر مجدداً، ولعل ذكر ملك داود وسليمان وسبأ لبيان أن ملك الدنيا مهما كان عظيما ومميزاً، فإنه فان، وداود وسليمان يمثلان حالتين متكاملتين من حيث المملكة المؤمنة بالآخرة التي انتهت بموت سليمان بتلك الصورة المذكورة في الآيات، فما أغنى عنه ملكه شيئاً من الموت، ولكنه وأباه سيكونان من الفئة الأولى المبشَّرة، بينما تمثّل مملكة سبأ المُلك المتمرّد على الله، وهي أيضاً لم تسلم من مصير الفناء ولم يُغنِ عنها قوتها الاقتصادية. وللإنابة دور في الربط.
- تنكير { فضلاً } لتعظيمه وهو فضل النبوءة وفضل المُلك، وفضل العناية بإصلاح الأمة، وفضل القضاء بالعدل، وفضل الشجاعة في الحرب، وفضل سَعَة النعمة عليه، وفضل إغنائه عن الناس بما ألهمه من صنع دروع الحديد، وفضل إيتائه الزبور، وإيتائه حُسن الصوت وغير ذلك.
- وجملة { يا جبال أوبي معه } مقول قول محذوف، أي : (وقلنا يا جبال... ) .
- التأويب الترجيع، أي ترجيع الصوت.
- وقيل التأويب بمعنى التسبيح، لغة حبشية فهو من المعرب في اللغة العربية، وتقدّم ذكر تسبيح الجبال وتأويب الطيور مع داود في سورة الأنبياء: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ، إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ، وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ) [17-19].
و { الطير } منصوب بالعطف على محل المنادَى (الجبال).
- وقد نستطيع الأخذ بظاهر القرآن ـ في ما لم يثبت استحالته أو خلافه ـ فلا نرى أيّ مانعٍ من أن ترجّع الجبال صدى صوته، والطير نغمات تسبيحه بالطريقة الحسيّة المادية: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء:44] في ما أبدعه الله في تكوينها من ذلك في مسار التجربة الخاصة لداود(ع).
- وآخرون اعتبروا أنه في الوقت الذي لا ينكرون فيه أن يكون للجبال وعي التسبيح في ما لا نفهمه منها، أو يكون للطير وعي الانسجام مع داود بطريقةٍ إراديّةٍ، لا يجدون المسألة قريبةً من الذهنية العامة التي يخاطب فيها القرآن الناس في تصورهم للأشياء من خلال المفردات الحسية الموجودة لديهم، إذ يبدو أن ترجيع الجبال أو تسبيح الطير معه واردٌ على سبيل الاستعارة، تماماً كما يقول الناس إن الكون كله يتحرك معه، أو يسبّح معه، ونحو ذلك.
(وَأَلَنَّا لَهُ ٱلْحَدِيدَ) قيل: إلانة الحديد تسخيره لأصابعه حينما يلوي حَلَق الدروع ويغمز المسامير.
- وقد يكون بمعنى أنه علم كيفية تصنيع الحديد بطريقة سهلة فأصبح هذا المعدن طيعاً له، لأنه إذا برد أصبح صلباً، ولكن الله ألهمه أو سخّر له من العلماء أو المصنّعين من استطاع أن يتجاوز هذه الحقبة ويصنع حديداً ليناً بسهولة.
(أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) 11
- أعطاه الله ذلك كي يُقدِم على هذه الصناعة الجديدة، أو الصناعة بالأسلوب الجديد.
- و { سَابِغَاتٍ } صفة لموصوف محذوف (دروع)، إذ شاع وصف الدروع بالسابغات والسوابغ حتى استغنوا عند ذكر هذا الوصف عن ذكر الموصوف.
- { قَدِّر } اجعله على تقدير ومحسوباً بدقّة وليس نسيجاً عشوائياً. كي لا تخترقه الأنصال لصغر الفتحات، ومن جهة أخرى كي يكون مرناً في الحركة وقوياً ومتماسكاً للدفاع عن الجسد.
- (السَّرْد) هي صناعة درع الحديد، أي تركيب حلقها ومساميرها التي تَشُدّ شقق الدرع بعضها ببعض فهي للحديد كالخياطة للثوب، والدِرع توصف بالمسرودة كما توصف بالسابغة.
- { اعملوا } لداود وآله
- { إني بما تعملون بصير } هنا كناية عن الجزاء عن العمل الصالح.
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ 12
- العطف على{ ولقد آتينا داود منا فضلاً } سبأ 10 والمناسبة مثل مناسبة ذكر داود فإن سليمان كان موصوفاً بالإِنابة قال تعالى{ ثم أناب } في سورة ص 34.
- { الريح } التقدير وسخرنا لسليمان الريح. عطف على (وألنا له الحديد).
- ومعنى تسخيره الريح خلق ريح تلائم سيرَ سفائنه للغزو أو التجارة، فجعل الله لمراسيه في شطوط فلسطين رياحاً موسمية تهبّ شهراً مشرّقة لتذهب في ذلك الموسم سفنه، وتهبّ شهراً مغرّبة لترجع سفنه إلى شواطىء فلسطين كما قال تعالى{ ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها } في سورة الأنبياء 81.
- فأطلق الغدوّ على الانصراف والانطلاق من المكان تشبيهاً بخروج الماشية للرعي في الصباح وهو وقت خروجها، أو تشبيهاً بغدّو الناس في الصباح. وأطلق الرواح على الرجوع، لأن عرفهم أن رواح الماشية يكون في المساء.
- ( وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ ) { القِطْر } النحاس المُذاب. وتقدم في قوله تعالى{ قال آتوني أفرغ عليه قطراً } في سورة الكهف 96. والإِسالة جعل الشيء سائلاً، و { عين القطر } ليست عيناً حقيقة ولكنها مستعارة لمصب ما يصهر في مصانعه من النحاس حتى يكون النحاس المذاب سائلاً خارجاً من الأنابيب كما يخرج الماء من العين لشدة إصهار النحاس وتَوالي إصهاره فلا يزال يسيل ليصنع له آنية وأسلحة ودَرقاً، وما ذلك إلا بإذابة وإصهار خارقيْن للمعتاد ، وذلك ما لم يؤته مَلك من ملوك زمانه.
- ويجوز أن يكون السيلان مستعاراً لكثرة القِطر كثرة تشبه كثرة ماء العيون والأنهار.