ما الدوافع الكامنة وراء رفض المشركين لفكرة القيامة؟ تلاوة وتفسير سورة سبأ 3-9

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ) 3.
- في هذه السورة منذ بداياتها حديث متكرر عن يوم القيامة والآخرة والمعاد، بل حتى الحديث لاحقاً عن مُلك داود وسليمان وعن النهاية المأساوية لسبأ يأتي في جانب منه للتأكيد على هذه المسألة، وعن سنّتي الحياة والموت وحركة التاريخ والقدرة الإلهية المتعلقة بذلك.
- ينكر الذين كفروا يوم القيامة مع ظهور عموم ملكه وعلمه بكل شيء، كما تبين ذلك في الآيتين الأولى والثانية، وفي هذه الآية: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ، يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ).
- فجاءت هذه الآية لتؤكّد حدوث ذلك بعدة أساليب بيانية في جملة قصيرة وذلك من خلال: (بلى) وهو حرف إيجاب لما نفاه كلامٌ قبله + (وربي) + (لام التوكيد) + (نون التوكيد).
- وحيث أن السبب الرئيس لهذا الإنكار من قبلهم هو اختلاط أبدان الأموات بعضها ببعض وتبدّل صورها بحيث لا خبر عن أعيانها فيمتنع إعادتها من دون تميز بعضها من بعض أشار إلى دفع ذلك بقوله: «عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ» أي لا يفوت «مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ».
- وكل هذه الأشياء - كائنة ما كانت - مثبتة في كتاب مبين.
(لِّيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ) 4
- اللام للتعليل، لبيان ضرورة يوم الققيامة بما يتناسب والعدل الإلهي.
- في هذه الآية بيان أحد السببين لقيام الساعة، وهو أن يجزي الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالمغفرة والرزق الكريم، وهو الجنة بما فيها.
- وفي الآية الخامسة بيان السبب الثاني:
(وَٱلَّذِينَ سَعَوْا فِيۤ آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ) 5
- السعي: الجد في المشي، كما نقول: السعي بين الصفا والمروة... والآيات: آيات القرآن.
- والمعاجزة: المبالغة في الإعجاز. وهو تمثيل شُبِّهت حالهم في مكرهم بالنبي (ص) ولاسيما إنكار الساعة التي يدور الحديث حول الإيمان بها هنا، بحال من يمشي مشياً سريعاً ليسبق غيره ويعجزه.
- والرّجز: أسوَأْ العذاب.
- و { مِن } بيانية، أي لتبيّن نوعية هذا العذاب وحجمه.
)وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ ٱلْحَقَّ وَيَهْدِيۤ إِلَىٰ صِرَاطِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ) 6
- ومن غايات بيان مسألة الساعة والحساب وإثابة المؤمنين العاملين للصالحات ومعاقبة المنكرين والمعاندين، أن يصدّق أتباع الرسالات السابقة ممن أوتو العلم من قبلُ أن رسالتك ورسالات الأنبياء السابقين من مشكاة واحدة، وأن القرآن حقاً منزلٌ من عند الله وأنه يهدي إلى صراط الله المتمثل في الإيمان والعمل الصالح، وأنك رسول الله فعلاً، فيصدّقون بالرسالة ويشهدون لصالحك.
- كما جاء في قوله تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ۖ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) [المائدة: 83].
- فكأن العبارة كالتالي: (وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ) أن (ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ ٱلْحَقَّ).
- ومن المحتمل أن المعنى: (وَيَرَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ ٱلَّذِيۤ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ) وهم المؤمنون برسالتك أنه (هُوَ ٱلْحَقَّ) ويزداد تصديقهم بذلك، لتناسب ذلك والعدل الإلهي، خاصة وأنهم يعيشون صراعاً عنيفاً مع المشركين، وبذا يتطلّعون إلى أن يُنصَفوا.
(وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَىٰ رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ) 7
- هذا من أقوال الكافرين وأعذارهم لإنكار الساعة. وفي كلامهم استهزاء بالنبي والقرآن.
- أي هل ندلكم على أعجوبة من رجل ينبئكم بهذا النبأ المحال، فتسمعون منه ما سمعناه منه، فتعرفوا عذرنا في مناصبته العداء. وقد كان المشركون هَيأوا ما يكون جواباً للذين يردون عليهم في الموسم من قبائل العرب يتساءلون عن خبر هذا الذي ظهر فيهم يدعي أنه رسول من الله.
- طمعاً منهم بأنها تصرف الناس عن النظر في الدعوة تلبّساً باستحالة هذا الخَلْق الجديد.
- وأضافوا:
(أَفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ بَلِ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ فِي ٱلْعَذَابِ وَٱلضَّلاَلِ ٱلْبَعِيدِ) 8
- هل هو عاقل يكذب على الله افتراء عليه بالقول بالبعث، أم به نوع جنون يتفوه بما بدا له من غير فكر مستقيم؟
- (بَلِ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ فِي ٱلْعَذَابِ وَٱلضَّلاَلِ ٱلْبَعِيدِ) ردٌّ لقولهم، لا افتراء ولا جنون، بل هؤلاء الكافرون بالآخرة مُبتعِدون عن الحق كثيراً، فهم معاندون ومكابرون، ولذا فهم مستقرون في عذاب سيظهر لهم.


(أَفَلَمْ يَرَوْاْ إِلَىٰ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ ٱلأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ) 9
- وعظ و إنذار لهم باستعظام ما اجترءوا عليه من تكذيب آيات الله والاستهزاء برسوله.
- انظروا إلى ما حولكم، ألا ترون آيات القدرة الإلهية؟ ألا ترون أنكم محاطون بخلق الله ولا مفرّ لكم لو شاء الله أن يعذبكم بها؟ ألا تخافون أن يوظّف الله خلقه العظيم هذا، بما فيه من عناصر يمكنها أن تتحول إلى أسباب لعذابكم في الدنيا قبل الآخرة كما حص لبعض من سبقكم، كالبراكين والزلازل والخسف والعواصف والنيازك المدمرة والجدب وأمثال ذلك لتكون سبباً لشقائكم العاجل؟
- الكِسْفَةُ : القطعة من الشيء.
- إنهم لا يجترءون على تكذيب هذه الآيات إلا لكونهم مستكبرين عاتين لا يريدون إنابة إلى ربهم.