ما الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض والجبال وحملها الإنسان ؟

{ إِنَّا عَرَضْنَا ٱلأَمَانَةَ عَلَى ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَٱلْجِبَالِ فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا ٱلإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } 72
- الافتتاح بحرف التوكيد:
1. للاهتمام بالخبر.
2. أو تنزيله - لغرابة شأنه - منزلة ما قد ينكره السامع.
- استعمال كلمة (عرضنا) هنا ليس استعمالاً حقيقياً، بل مجازياً، فهو استعارة تمثيلية لبيان:
1. أنه قد تم وضع شيء في شيء لأنه أهل له دون بقية الأشياء، وعدم وضعه في بقية الأشياء لعدم تأهلها لذلك الشيء، فشبهت حالة صرف تحميل الأمانة عن السموات والأرض والجبال ووضعها في الإِنسان بحالة من يعرض شيئاً على أناس فيرفضه بعضهم ويقبله واحد منهم على طريقة التمثيلية.
2. أو لبيان تعلق علم الله تعالى بعدم صلاحية السماوات والأرض والجبال لإِناطة ما عُبّر عنه بالأمانة بها، وصلاحيةِ الإِنسان لذلك.
س: لماذا تم استعمال هذا الأسلوب البياني؟ لماذا لم يقل: (الإنسان من بين سائر المخلوقات هو القادر على حمل هذه الأمانة)؟
ج: فائدة هذا التمثيل تعظيم أمر هذه الأمانة إذ بلغت أن لا يطيق تحملها ما هو أعظم ما يبصره الناس من أجناس الموجودات.
- فتخصيص { السماوات والأرض } بالذكر من بين الموجودات لأنهما أعظم المعروف للناس من الموجودات، وعطف { الجبال } على { الأرض } وهي منها لأن الجبال أعظم الأجزاء المعروفة من ظاهر الأرض وهي التي تشاهد الأبصارُ عظمتها.
- وهذا شبيه بطريقة عرض الفكرة في الآية التالية: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ) [الأعراف:172]. فالمعنى أن الله أودع في نفوس الناس حقيقة ودلائل الوحدانية، فهي ملازمة للفكر البشري عبر التاريخ، ولكنها قدمت بهذه الصورة لبيان عظمة هذا الأمر.
س: ما هي الأمانة ؟
ج: اختلف فيها المفسرون على عشرين قولاً، وبعضها متداخل في بعض، فقيل:
- الطاعة
- الصلاة
- مجموع الصلاة والصوم والاغتسال
- جميع الفرائض
- الانقياد إلى الدين
- حفظ الفرج
- التوحيد
- دلائل الوحدانية، كما جاء في قوله تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَىٰ شَهِدْنَا أَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ) [الأعراف:172].
- تجليات الله بأسمائه
- ما يؤتمن عليه، ومنه الوفاء بالعهد، ومنه انتفاء الغش في العمل.
- العقل، والمعنى أن الحكمة اقتضت أن يكون الإنسان مستودَع العقل من بين الموجودات العظيمة في حجمها، وما يستتبع ذلك من علوم ومعارف.
- خلافة الله في الأرض. (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) [البقرة:30].
- ما ذكر آنفاً بعضه من الآثار (فخلافة الله في الأرض من آثار حمل الأمانة)، وبعضه من المصاديق (فالصلاة من مصاديق الطاعة والصوم والاغتسال).
- ولعل الصحيح أن يقال أن المراد أن الله سبحانه لم يجعل من بين هذه المخلوقات من يستطيع أن يكون مكلفاً بالصورة التي كُلِّف بها الإنسان ليكون محاسباً ومستحقاً للثواب والعقاب وفق ذلك.
- ومن الواضح أن العقل هو الركن الأساس في ذلك، وللقوى والإمكانات الأخرى التي يتمتع بها الإنسان كالإبصار والسمع وتكوين اليدين وغير ذلك دور: (أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد:8-10]، (بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ) [القيامة:4] للدلالة على دقة خلق الأصابع ودور ذلك في حياة الإنسان، ومن بينها التدوين: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ، الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ، عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق:3-5].
- وبذا استحق الإنسان أن يكون خليفة الله في أرضه، ونال العلوم والمعارف (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا) [البقرة:31]، وصار مسئولاً تجاه التكاليف الإلهية كالصلاة والزكاة والصوم.
- وهي مسئولية ضخمة وصعبة وهو ما تم تبيينه بقوله تعالى: (وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا).
- وكيف كانت النتائج على الأرض؟ باختصار: (إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً).
- لقد قصّر الإنسان في الوفاء بحق ما تحمله تقصيراً:
1. بعضُه عن عمْد وهو المعبر عنه بوصف ظلوم. والظلوم مبالغة في الظلم. والظلم الاعتداء على حق الغير، وهنا هو الاعتداء على حق الله الملتزم له بتحمل الأمانة.
2. وبعضه عن تفريط في الأخذ بأسباب الوفاء، وهو المعبر عنه بكونه جهولاً، والجهول مبالغة في الجهل مع أن الله جعل عند الإنسان ووفّر له كل ما يحتاج إليه للمعرفة (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا).
{ لِّيُعَذِّبَ ٱللَّهُ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ ٱللَّهُ عَلَى ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } 73
- اللام لام العاقبة، وليست لام التعليل، أي لم يحمل الله الإنسان الأمانة لكي يعذب ويتوب، بل إن ما حصل بعد خلق الإنسان وجعله مكلفاً أنه انقسم إلى فئات بحسب الإيمان والعمل، فمنه ما استحق العقاب ومنه ما استحق التوبة.
- وكأن الآية تقول أن جواز إنزال هذا العذاب على المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات واستحقاق المؤمنين والمؤمنات للعقاب ثم التوبة عليهم كله فرع ذلك التكليف وتلك الأمانة التي حملها الإنسان.
- ولعل ذكر المنافقات والمشركات والمؤمنات مع المنافقين والمشركين والمؤمنين - في حين الاستغناء عن ذلك بصيغة الجمع التي شاع في كلام العرب شموله للنساء - إشارة إلى دورهن في حوادث غزوة الخندق من إعانة لرجالهن على كيد المؤمنين، وبعكس ذلك حال المؤمنات، أو دور المؤمنات في الإساءة للنبي مما استعرضناه سابقاً، ومن حيث لم يقصدن.
- (وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) بشارة للمؤمنين والمؤمنات بأن الله سيعاملهم بالغفران وما تقتضيه صفة الرحمة بعد التوبة عليهم، أو فتح باب أمل لهم لئلا يستغرقوا في حسرة المخالفة والمعصية بما يفتح لهم باب اليأس، وما يستتبع اليأس من احتمال الكفر أو التخلي عن المسئوليات، تماماً كما جرى بعد غزوة أحد: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ) [آل عمران:155].