خطبة الجمعة 29 صفر 1442: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: نابليون .. فولتير .. غوته .. ومحمد (ص)


- عرضتُ في الأسبوع الماضي مثالَين لشخصيتين غربيتين تبدلت مواقفهما من الإسلام من المواجهة والعداء إلى الإيمان والموالاة، وذلك بعد اطلاعِهما على المضامين الحقيقية والتعاليم الراقية للإسلام والسيرة الزاكية لنبيّه (ص)، فكانا مثالين حيين على أن الناس أعداء ما جهلوا.
- ولنتوقف عند بعض الأمثلة الأخرى التي سجّلها التاريخ الغربي في هذا الإطار.
- الدكتور (جون تولان) الباحث الفرنسي المعاصر المختص في العلاقات الدينية والثقافية بين العالمين العربي والغربي في العصور الوسطى ذكر في كتابه (وجوه محمد: التصورات الغربية لنبي الإسلام من العصور الوسطى إلى اليوم) Faces of Muhammad: Western Perceptions of the Prophet of Islam from the Middle Ages to Today
أنه في 2 من أكتوبر 1808م، التقى الأديب الألماني غوته والإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت في مدينة إرفورت الألمانية التي احتلها الفرنسيون، وناقش الرجلان السياسة وتحدثا عن الأدب، وعندما علم نابليون أن غوته قام بترجمة (مسرحية محمد) للفيلسوف الفرنسي فولتير إلى اللغة الألمانية، وهي مسرحية مهينة وساخرة، عقّب نابليون قائلاً: (إنها لم تكن مسرحية جيدة، ورسَمت صورة مشوهة لفاتح عالمي ورجل عظيم غيّر مجرى التاريخ).
- هذه الملاحظة من نابليون فتحت أفقاً للأديب الألماني (غوته) كي يعيد قراءة سيرة النبي (ص) بتجرّد، وليكتب عنه لاحقاً بكثير من الدهشة والإعجاب.
- وهكذا كان شأن (فولتير) نفسه، فبعد مدة من إنتاج تلك المسرحية اطّلع على ترجمة المستشرق الإنجليزي (جورج سيل) لمعاني القرآن المنشورة عام 1734، وكتب (سيل) في مقدمتها أن نبي الإسلام كان مصلحاً مبدعاً ومناهضاً للكهنوتية، وحرص على إلغاء الممارسات الخرافية مثل عبادة القديسين والآثار المقدسة، وألغى قوة رجال الدين الفاسدين والجشعين، فتبدّل موقف (فولتير) في كتاباته من السخرية بنبي الإسلام، إلى الثناء عليه باعتباره عدواً للخرافات، وأن دينه خال من الطلاسم أو الألغاز، وأنه حرّم الموبقات كالقمار والخمر وأمر بالصلاة والصدقة.
- وفي الفصل السادس من كتابه وبعنوان (نبي التنوير، المصلح والمشرّع) استعرض المؤلف صورة النبي (ص) لدى المثقفين الأوروبيين في القرن الـ17 الذين نظَروا إليه كمصلح نموذجي، ومحطّم للكهنوت، وعدو لخرافات الجماهير، وكنبي التوحيد الذي طهّر الدين بتجريد العقائد من الطقوس الوثنية، وألغى امتيازات رجال الدين، وأقام علاقة مباشرة بين الله والمؤمنين.
- من الواضح هنا أن إعجاب المثقفين الأوروبيين في تلك الفترة انصبّ على جوانب خاصة من سيرة النبي (ص) ورسالته تمسّ واقعَهم البائس الذي كانوا يعانون فيه الأمرّين نتيجة تغوّل الكنيسة وتراكم الخرافة ومحاربة العلم وأمثال ذلك.
- وهذا بحدّ ذاته مؤشِّر إلى ضرورة العمل على تقديم الإسلام ونبيه (ص) إلى الآخرين في هذا العصر، غربيين كانوا أم شرقيين، من خلال القضايا والعناوين التي تمثّل إشكاليات معاصرة تعاني منها تلك المجتمعات فعلياً، ومن بينها المسألة الاقتصادية، كتوحّش الرأسمالية وجشعها، والطبقية العنيفة، والمادية المستغرقة، التي يمكن أن تُقدَّم في مقابلها صور قرآنية لامست معاناة المستضعفين والفقراء والرقيق والأيتام، وهاجمت تغوّل الطبقة الرأسمالية الجشعة التي مثّلها غالبية سادات مكة وتجارها، ونزلت في بدايات الدعوة، وكانت سبباً في الإقبال على الرسالة والإيمان بها، كقوله تعالى: (كَلاَّ بَل لّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ، وَلا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلا لَّمًّا، وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) [الفجر:17-20]، وقوله تعالى: (فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ، وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ، يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ، أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ، ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) [البلد:11-17] وأمثال ذلك من الصور الإنسانية والقيَمية التي يزخر بها القرآن الكريم وتتقاطع مع كثير من العناوين التي تمثّل اليوم ركائز لأزمات اجتماعية واقتصادية وسياسية وأخلاقية يتطلّع العالم إلى إيجاد حلول لمعالجتها تكون مختلفة عمّا تقدمها الرأسمالية الليبرالية، وقدّمتها مدارس أخرى من قبل.