خطبة الجمعة 29 صفر 1442: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى: الناس أعداء ما جهلوا

- في الحكمة برقم 169 من نهج البلاغة يقول أمير المؤمنين (ع) كما روي عنه: (الناس أعداء ما جهلوا). وعلق ابن أبي الحديد المعتزلي على هذه الحكمة قائلاً: (هذه من ألفاظه الشريفة التي لا نظير لها).
- وقد قدّم القرآن الكريم نموذجاً عملياً للمواقف السلبية التي قد يتخذها الإنسان بسبب عدم معرفته بحقيقة الأمر الذي يواجهه.
- ففي قصة لقاء النبي موسى (ع) بالعبد العالِم نجد الحوار التالي: (قَالَ لَهُ مُوسَىٰ هَلْ أَتَّبِعُكَ
عَلَىٰ أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا، قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا، وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَىٰ مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا) [الكهف:66-68].
- أي من الطبيعي والمتوقع أنك لن تتفهّم تصرفاتي الغريبة بل والمستهجَنة في ظاهرها، بما أنك تجهل الدوافع من ورائها، وستأخذ موقفاً سلبياً منها ومنّي ما لم يتحوّل جهلُك بها إلى علم ومعرفة. أما إذا عُرف السبب فقد بطَلَ العجَب.
- ولا نشك في أن هذه التجربة أفادت النبي موسى (ع) بنحوٍ ما بعد المواقف الثلاثة التي مرّ بها، وهذا هو حال أصحاب الضمائر الحية، ومن تجرّدوا عن الشخصانية، وكانت الحقيقة غايتُهم، والمعرفة بوصلتُهم.
- فهذا النموذج من الناس يتراجعون لاحقاً عن موقفهم ويصحِّحون أخطاءهم، بينما في المقابل نجد نموذجاً آخر يكابر ويصرّ على موقفه إذ تأخذه العزة بالإثم! وهنا مكمن الخطورة.
- القرآن الكريم عرض نموذج أفراد أقيمت عليهم الحجة، ومع هذا استمروا في مواقفهم السلبية أو العدائية السابقة، ومن ذلك ما جاء في قوله تعالى: (ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَّمْدُودًا، وَبَنِينَ شُهُودًا، وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ، كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا) فالمسألة ليست مسألة جهل بل عناد مطلق يمارسه هذا الشخص بحق العلائم والدلائل الواضحة التي تُثبت صدق النبي وسماوية القرآن الكريم (سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ) فهل كان تفكيره في الاتجاه الصحيح بحثاً عن الحقيقة؟ كلا، بل كان تفكيراً للبحث عن التهمة الأنسب التي يُلصقها بالنبي زوراً (فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ) هذه هي التهمة التي استقرّ عليها بعد تفكيره الشيطاني على الرغم من الآيات البينات [المدثر:11-25].
- ومن هنا، علينا الحذر من التسرّع في إطلاق الأحكام واتخاذ المواقف السلبية من الأمور التي لم نعهدها من قبل، سواء على مستوى حكم شرعي، أو رأي علمي، أو تحليل تاريخي، أو تقييم شخصية، أو غير ذلك، فالمسألة قد لا تقف عند حد اكتشاف أنني مخطيء في حكمي أو موقفي من ذلك الشيء لاحقاً، بل قد تتجاوز ذلك إلى أن تتحوّل إلى مكابرة وإصرار على الخطأ على الرغم من انكشاف الحقيقة وقيام الدليل، الأمر الذي سيُحمّلني المسئولية الكاملة عن كلماتي ومواقفي اللاحقة بهذا الشأن، لأن الجاهلَ قد يكون معذوراً في بعض الأحيان، كما لو انسد طريق المعرفة بالنسبة إليه، أو فيما لو كان جهله بالشيء جهلاً مركّباً.. أما العالمَ فهل له من عذر؟