نقد (الشيعة والعصمة) - 1 ـ مقال للشيخ علي حسن

نشر الأستاذ فاخر السلطان مقالاً بعنوان (الشيعة والعصمة)، وعلى الرغم من احتوائه على بعض الحقائق إلا أنه اشتمل على الكثير من الأخطاء والمغالطات التي بنى على أساسها النتائج التي قدمها للقراء، فأحببت أن أقدّم ملاحظاتي مع الاختصار الشديد والوقوف عند بعض المحطات لا كلها.



العصمة والبشرية



قال: (نستهدف من طرح قضية العصمة، عصمة الأنبياء، معالجة الأوصاف غير البشرية أو فوق البشرية التي يسعى البعض إلى إلصاقها بفئة مِن البشر هم الأنبياء..). وقال: (.. تنزع الصفات فوق البشرية عن الإنسان الكثير من الانفعالات البشرية الطبيعية، مثل الفرح والغضب والحزن والسرور وما يرافق ذلك من سلوكيات خاصة..).

والحق أن العصمة ليست أمراً يُخرج النبي عن كونه بشراً، فهو يحس بما يحسّون وينفعل بما حوله، وهو ليس مخلوقاً آخر لا يلتقي مع البشر في خصائصهم، بل العصمة هي ملكة نفسية ورقابة ذاتية وتربية مستمرة وعناية ربانية لا تصدر معها المعاصي عمّن اتصف بها مع قدرته على مفارقتها، وإلى جانبٍ من هذا أشار الإمام علي عليه السلام حيث قال: (ولقد قرن الله به من لدن أن كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم، ومحاسن أخلاق العالم، ليله ونهاره). ولذا يمكن اجتماع العصمة بهذا المفهوم مع البشرية دون أي مانع عقلي، وفي ذات الوقت الذي يتصف فيه بالعصمة فإنه يفرح دون أن يبطر، ويحزن دون أن يجزع، ويمرض ويضعف بدنياً دون أن يفقد عقله وإدراكه، ويلبي نداء غرائزه بلا طغيان ولا تجاوز لحرمات الله.



العصمة والدليل العقلي



قال: (وبما أن العصمة تتعارض مع العلوم التجريبية وغير قابلة للإثبات عن طريق الأدلة والبراهين العقلية فإن المؤمنين بالعصمة لجأوا للنص القرآني لإثبات رؤيتهم).

إلى جانب الأدلة النصية أقام المحققون البراهين العقلية ـ من قبيل دليل الوثوق ودليل اللطف ـ لإثبات وجوب العصمة بالمفهوم السابق، وليست المسألة مجرد إيمان عار عن الدليل العقلي. ويمكن الرجوع إلى كتب السيد المرتضى ونصيرالدين الطوسي والعلامة الحلي في هذا المجال للاطلاع.

قال الشيخ الصافي - مع التصرف والاختصار -: (فالأصل في الاعتقاد بعصمة النبي هو حكم العقل، والشرع يؤيد العقل في حكمه هذا، وإنما يكون الشرع هو المرجع الأول في الموارد التي لم يكن للعقل فيها حكم لا بالإيجاب ولا بالسلب. وفي مسألة عصمة الأنبياء العقل هو المرجع الأول. ومن الأدلة العقلية على العصمة أنهم لو لم يكونوا معصومين لارتفع الاطمئنان والاعتماد عن اتباعهم والاقتداء والتأسي بهم، وتبطل فائدة بعث الأنبياء، فاللطف والحكمة يقتضيان ذلك، واختصاصهم بتلك العنايات، لا يتنافى مع الطبيعة البشرية لمن له معرفة بالقدرات البشرية).



العقل والمعاد



قال: (إن العديد من الباحثين يعتقدون بأن الحقائق والمصاديق الدينية لا يمكن إخضاعها للإثبات. من هؤلاء ابن سينا الذي كان يقول بأن المعاد لايمكن إثباته بالدليل العقلي).

والصحيح أن ابن سينا لم يقل بعدم إمكان إثبات المعاد بالدليل العقلي، بل اعتبر أنه لا يمكن إثبات (المعاد الجسماني) بالعقل، أما (المعاد الروحاني) فالعقل يثبته. قال في كتاب النجاة والشفاء: (يجب أن يُعلم أن المعاد منه ما هو منقول من الشرع، ولا سبيل إلى إثباته إلاّ من طرق الشريعة وتصديق خبر النبوة، وهو الذي للبدن عند البعث، وخيرات البدن وشروره معلومة لا يحتاج إلى أن تُعلم، وقد بسطت الشريعة الحقّة التي أتانا بها نبينا وسيدنا ومولانا محمّد صلى الله عليه وآله وسلم حال السعادة والشقاوة التي بحسب البدن، ومنه ما هو مُدرك بالعقل والقياس البرهاني، وقد صدّقته النبوة، وهو السعادة والشقاوة الثابتتان بالقياس اللتان للأنفس، وإن كانت الأوهام هاهنا تقصر عن تصوّرهما الآن).

ثم لاحظ عزيزي القارئ أن ابن سينا - وهو الفيلسوف المؤمن بمنهجه العقلي أشد الإيمان - يصدّق في النتيجة بالمعاد الجسماني - اعتماداً على الشريعة التي يثق بمصدرها ومضمونها - وإن لم يصل بنفسه إلى برهان عقلي.. فهل نكون ملكيين أكثر من الملك؟!

بالإضافة إلى أن جمعاً من المحققين قد ردوا شبهات الفلاسفة حول خصوص (المعاد الجسماني)، من قبيل شبهة (استحالة إعادة المعدوم) وشبهة (الآكل والمأكول) وغيرهما مما لا محل لعرضها، وأحيل القارئ إلى كتاب (نفحات القرآن) الجزء الخامس لسماحة الشيخ مكارم الشيرازي، وكتاب (المعاد) لعلي موسى الكعبي، وفيهما الكثير من الأدلة العقلية على مسألتي المعاد وجسمانيته.



العقل والتوحيد



وقال بعد ذلك مباشرة: (والأمر نفسه ينطبق على التوحيد والنبوة، وكذلك على العصمة). في إشارة إلى عدم إمكانية إقامة الدليل العقلي على التوحيد والنبوة والعصمة، وأنها قضايا إيمانية لا يقوم عليها برهان عقلي.

والحق أنه من غير الإنصاف أن ينكر أي باحث دور العقل في إثبات التوحيد والنبوة، فالإسلام ركز كل عقيدته على العقل، وجعل الحجة بين الله وبين عباده العقل، وهناك عشرات الآيات التي تقيم الدليل العقلي على التوحيد والنبوة، كما أقام الفلاسفة المسلمون الأدلة العقلية في كتبهم على التوحيد وصفات الله والنبوة، كما فعل ابن سينا في كتابه (الرسالة العرشية في حقائق التوحيد وإثبات النبوة) قال في بدئها: (فقد سألنى بعض من ينتهم إلى أن أذكر له رسالة مشتملة على حقائق علم التوحيد على الوجه الذى يجب أن يعتمد فى الله وصفاته وأفعاله، مجانباً جانب التقليد مائلاً إلى محض التحقيق على سبيل الاختصار، فأجبته إلى ملتمسه مستعيناً بالله ربنا) وهي رسالة تدور حول إثبات التوحيد والنبوة بالبراهين العقلية. كما صنّف المحققون عشرات الكتب المتخصصة في هذا الجانب وضمّنوها البراهين العقلية، ومن الكتب المعاصرة (الإلهيات على هدى الكتاب والسُّنة والعقل) بأجزائه الثلاثة وهي محاضرات لسماحة العلامة جعفر السبحاني.



(يتبع)





تاريخ النشر 24/10/2009