ماذا يجري في المقبرة الجعفرية؟ مقل للشيخ علي حسن

يارة القبور - علاوة على ترتب الثواب والرحمة الإلهية للزائر والميت - تعدّ من موجبات إحياء قلوب المؤمنين وهدايتهم إلى ما يرضي الله عز وجل، وتذكيرهم بالموت، الذي قد يدفعهم نحو التوبة الحقيقية، وتذكّر الآخرة، والسعي لإصلاح النفس وإصلاح الآخرين. عن أمير المؤمنين علي عليه السلام: (ألا فاذكروا هادم اللذات، ومنغّص الشهوات، وقاطع الأمنيات، عند المساورة للأعمال القبيحة، واستعينوا بالله على أداء واجب حقه، وما لا يحصى من أعداد نعمه وإحسانه).

ولو سألت المترددين بصورة دائمة على المقبرة الجعفرية بمنطقة الصليبيخات عما يجري فيها لأخبروك - وعلامات الانزعاج أو الغضب بادية عليهم - أن ما يجري فيها لا يرضي الله، ولا يقرّه شرع، ويخالف القوانين. ولا أريد في هذا المقام أن أحصر كل المظاهر السلبية التي باتت تتكرر بلا رادع، بل القصد هو مجرد الإشارة إلى بعضها أملاً في أن يعي الناس مسؤوليتهم وتتحرك الجهات المعنية لمعالجة الأخطاء:



عدم مراعاة الأحكام الشرعية:



لغسل الميت طريقة شرعية مبيَّنة في كتب الفقهاء، ومخالفة ذلك يستدعي نبش القبر أحياناً، قال السيد الخوئي رحمه الله: (إذا دفن الميت بلا تغسيل - عمداً أو خطأ - جاز بل وجب نبشه لتغسيله أو تيممه، وكذا إذا ترك بعض الأغسال ولو سهواً أو تبين بطلانها، أو بطلان بعضها، كل ذلك إذا لم يلزم محذور من هتكه أو الإضرار ببدنه). ومن يراقب المغسلين يتيقن عدم مراعاتهم لبعض أحكام التغسيل، والتعامل مع الحالات النازفة والمتوفاة الحائض وشبهها، هذا فضلاً عن اشتراطهم - في كثير من الأحيان - مبلغاً من المال على أولياء الميت قبل بدء التغسيل، علماً بأن من المفترض أن جميعهم يتقاضون رواتب من الحكومة. هذا بالإضافة إلى ادعاء البعض بانحراف بعض القبور الجديدة عن القبلة، الأمر الذي يستدعي تدقيق المسؤولين والتحقق منه.



تجميل القبور ورفعها:



ذكر الفقهاء أيدهم الله تعالى أنه يكره (تجصيص القبر وتطيينه وتسنيمه وكذا البناء عليه وتجديده إلا أن يكون الميت من أهل الشرف). والمقصود بأهل الشرف ما يشمل الأنبياء والأوصياء عليهم أفضل الصلاة والسلام، بالإضافة إلى العلماء والصلحاء قدس الله أرواحهم. وقد خصص بعضهم كراهية التجصيص والتطيين فيما إذا كان ذلك لباطن القبر لا لظاهره. كما ذكر الفقهاء أنه يستحب رفع القبر عن الأرض بمقدار أربعة أصابع مضمومة أو مفرَّجة. وأما إذا زاد الارتفاع عن هذا المقدار فهو مكروه، إلا أن يكون في ذلك تعظيم للشعائر، كما لو كان القبر لنبي أو وصي أو عالم. إلا أن ما يشاهد اليوم من تعليق أنواع الزينة على القبور وشواهدها، وكذلك الرفع بمقدار متر أو أكثر، وإنفاق الأموال الطائلة على حجر الشاهد في حالة تنافسية يستغلها بعض مقاولي الدفن، فلم يرد فيه نص شرعي، بل فيه ما ينافي الفتاوى الشرعية.



ادعاء الكرامات وعقد النذور:



ومن اللافت في السنوات الأخيرة تميّز بعض هذه القبور برفع الأعلام ووضع الكسوة عليها، وربط الخيوط والوجود المكثف بقربها طلباً لكرامة من صاحب القبر، تماشياً مع ادعاءات باطلة أن صاحب هذا القبر «يعطي المراد»، وأن فلاناً رأى في عالم الرؤيا أن هذا القبر لولي من الأولياء إلخ.. والله أعلم من المتكسّب من وراء ذلك كله.



سحر وعقد:



من حين لآخر تظهر بعض الوسائل التي يستخدمها أهل السحر عند بعض القبور، لفائف وكتابات وشعر آدمي وما إلى ذلك، ويدّعي البعض - والله العالم - أن أصحابها يدخلون خلسةً في الليل، لأن المقبرة عامرة عادةً بالزائرين خلال النهار طوال أيام الأسبوع، الأمر الذي يستدعي المراقبة والتثبّت.



تعدّي على القبور:



شاهدت بنفسي تعدي بعض الشباب المستهترين على القبور بحرق وتمزيق بعض الكتيبات التي يتركها أهل الميت عند قبره وتحتوي على سور قرآنية و أدعية مأثورة، أو بالدخول بالسيارة ثم «التشفيط» وإطلاق بعض العبارات، ورفعت شكوى في حينها إلى بعض المسؤولين. وعلمت أن هذه التعديات تتكرر من حين لآخر.



عدم مراعاة حرمة المكان:



فإذا كانت هذه هي الأهداف المرجوة من زيارة القبور، فمن المؤكد أن التجول بين القبور من قبل النساء المتبرجات وبثياب غير محتشمة يتنافى تماماً معها. كما أن التمشي بين القبور والضحك وتبادل الطرائف لا يتناسب تماماً مع الجو العام المفترض أن يكون، فعن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (من ضحك على جنازة أهانه الله يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، ولا يستجاب دعاؤه. ومن ضحك في المقبرة رجع وعليه من الوِزر مثل جبل أحد...).



الإطعام وتوزيع الحلوى:



من المستحبات المنصوص عليها صنع الطعام لمدة ثلاثة أيام من قبل الأهل والجيران لأقرباء الميت، فعن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنه قال: (ينبغي لجيران صاحب المصيبة أن يطعموا الطعام عنه ثلاثة أيام). ولكن من الملاحظ أن هذه السّنَّة التي تهوِّن على أصحاب العزاء مصيبتهم، وتقوّي الروابط الاجتماعية وتفسح المجال لأهل الميت للانشغال بمأتمهم، هذه السّنَّة باتت غير متبعة في مجتمعنا، بل صار أصحاب العزاء هم المكلَّفون بإعداد الطعام للمعزِّين. كما أن توزيع الحلويات وإشعال البخور ورش ماء الورد ووضع الطعام والثلج على القبر لا تمت جميعها إلى الشرع بصلة! فيا حبذا لو أنفقت هذه الأموال على الفقراء واليتامى والصدقات الجارية، على روح الميت.

تاريخ النشر 10/10/2009