ما التهمة التي وجهت لموسى (ع) وبرأه الله منها ؟

- نهى الله المسلمين عما يؤذي النبي ورَبأَ بِهم عن أن يكونوا مثل بني إسرائيل الذين آذوا رسولهم موسى (ع)، حيث قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا) 69.
- وقد أشير إلى إيذاء موسى (ع) من قبل بني إسرائيل أيضاً في الآية الخامسة من صورة الصف: (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ).
- وقد أجمل القرآن بشأن طبيعة هذا الإيذاء، وإن قال بعض أنه إشارة إلى ما جاء في قوله تعالى:
1. (قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) المائدة:24.
2. وما جاء في قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) البقرة:67.
وأمثال ذلك مما ورد في القرآن من صور التمرد كعبادة العجل.
- ولكن يبدو أن المسألة ذات بُعد آخر بلحاظ:
1. قوله: (فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا) فهو لا يتناسب مع ما جاء في تلك الآيات.
2. وبلحاظ الاستشهاد بذلك في أجواء القضايا الحساسة المرتبطة بسمعة رسول الله (ص) في هذه السورة.
- وقد روي في صحيح البخاري عن النبي (ص) أن موسى (ع) لشدة حيائه كان شديد التستر على خلاف عامة الناس، فاتُّهم بأنه:
1. مبتلى بفتق واضح وشديد في منطقة العورة، وهو ما يُطلق عليه مصطلح (الأُدْرة).
2. أو به برص.
3. أو به عاهة ما يخفيها عن الأعين.
وأنه وضعه ثوبه على حجر حين ذهب للاغتسال ففر الحجر بالثياب فتكشف للناس بطلان قولهم وأنهم غير مصاب بشيء.
- وراوي الحديث وهو أبوهريرة يحلف بأن موسى ضرب الحجر ستاً أو سبع ضربات حتى بان فيه الأثر.
4. وقيل بأنه اتهم من قبل قارون بعلاقة مع امرأة زانية، وأنه جاء بشهود زور على ذلك.
- وفي سفر العدد من التوراة الحاضرة عبارة أثارت كلاماً حولها من قبل بعض الحاخامات، ونجد له ذكراً في التلمود.
- ففي هذا السفر حديث عن عودة العيون الذين أرسلهم النبي موسى (ع) للتجسس على أرض كنعان، والكلام السلبي الذي نقلوه ما عدا كالب ويوشع، وقد نقل القرآن جانباً من ذلك حيث قال: (يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِكُمْ فَتَنقَلِبُوا خَاسِرِينَ، قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حَتَّىٰ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ، قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ، قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ،) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) [المائدة:21-26].
- ثم تتحدث الآيات التوراتية عن تمرد قورح بن يصهار – الذي يقول البعض أنه قارون – مع ثلاثة آخرين وانضمام 250 من رؤساء الجماعة، وتوجهوا إلى موسى وهارون وقالوا: («كَفَاكُمَا! إِنَّ كُلَّ الْجَمَاعَةِ بِأَسْرِهَا مُقَدَّسَةٌ وَفِي وَسَطِهَا الرَّبُّ. فَمَا بَالُكُمَا تَرْتَفِعَانِ عَلَى جَمَاعَةِ الرَّبِّ؟») الأصحاح 16:3.. تقول الآية التي بعدها: (فَلَمَّا سَمِعَ مُوسَى سَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ).
- ثم حصل ما يشبه المباهلة بين الطرفين: (فَلَمَّا فَرَغَ مِنَ التَّكَلُّمِ بِكُلِّ هذَا الْكَلاَمِ، انْشَقَّتِ الأَرْضُ الَّتِي تَحْتَهُمْ، وَفَتَحَتِ الأَرْضُ فَاهَا وَابْتَلَعَتْهُمْ وَبُيُوتَهُمْ وَكُلَّ مَنْ كَانَ لِقُورَحَ مَعَ كُلِّ الأَمْوَالِ، فَنَزَلُوا هُمْ وَكُلُّ مَا كَانَ لَهُمْ أَحْيَاءً إِلَى الْهَاوِيَةِ، وَانْطَبَقَتْ عَلَيْهِمِ الأَرْضُ، فَبَادُوا مِنْ بَيْنِ الْجَمَاعَةِ. وَكُلُّ إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ حَوْلَهُمْ هَرَبُوا مِنْ صَوْتِهِمْ، لأَنَّهُمْ قَالُوا: «لَعَلَّ الأَرْضَ تَبْتَلِعُنَا». وَخَرَجَتْ نَارٌ مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ وَأَكَلَتِ الْمِئَتَيْنِ وَالْخَمْسِينَ رَجُلًا). وهو مشهد قريب من المشهد القرآني لقارون.
- وعلى كل حال، فإن الآية الرابعة من هذا الأصحاح حيث قالت: (فَلَمَّا سَمِعَ مُوسَى سَقَطَ عَلَى وَجْهِهِ) فلابد أن موسى (ع) سمع كلاماً صاعقاً بحقه دفعه لمثل ردة الفعل هذه وليس مجرد التمرد، وقد طُرح في السنهدرين 110 أ من التلمود التساؤل التالي: (يسأل الجمارا: ما الخبر الذي سمعه وأثار رد الفعل هذا؟ يقول الحاخام شموئيل بار نحماني أن الحاخام يوناتان يقول: سمعوا أنهم اشتبهوا به في زنا مع امرأة متزوجة، إذ قيل: "وكانوا يغارون من موسى في المخيم" (مزمور 106: 16). يقول الحاخام شموئيل بار يتسحاق: هذا يعلمنا أن كل رجل قد حذّر زوجته لتنأى بنفسها عن موسى وألا تدخل معه في عزلة، وكما قيل: "ويأخذ موسى الخيمة وينصبها خارج المحلة" (خروج) 33: 7). وبسبب هذا الافتراء انسحب من المخيم).
- من هنا نفهم مراد القرآن الكريم في إشارته إلى عدم تكرار ما ارتكبه قوم موسى بحق نبيهم، وتناسب ذلك مع التحذيرات الواردة في سورة الأحزاب والتهديد والوعيد والتشريعات المشددة الخاصة ببيت النبي وعلاقة المسلمين بذلك البيت.
- بعد ذلك، وجه الله إلى المسلمين نداء بأن يتَّسِموا بالتقوى وسداد القول، حيث قال: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً } 70. فمن شأن التقوى أن تحصّن الإنسان.
والسداد: الصواب والحقُ، ومنه تسديد السهم نحو الرمية، أي عدم العدول به عن سمْتها بحيث إذا اندفع أصابها. وفي الحديث " وهل يَكُبّ الناس في النار على وجوههم إلاّ حصَائِد ألسنتهم " ، وفي الحديث الآخر " رحم الله امرأ قال خيراً فغنم أو سكت فسلم " .
- وسيترتب على التزامكم بتقوى الله والقول السديد: {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) 71
- فالنتيجة الطبيعية أن الناس إذا لازموا التقوى والقول السديد انقطعوا عن كذب القول ولغو الحديث والكلام الذي يترتب عليه فساد، وتقل موارد الخلافات والصراعات فيما بينهم، وعند ذلك تنصلح أحوالُهم، ويسددهم الله، ويوفقهم لمزيد من أوجه الخير والصلاح.
- كما وسيترتب على تذوق هذه النعمة ندم الناس على ما فوّتوا من قبل وما صنعت أيديهم، وكفى بالندم توبة، وسيترتب على ذلك مغفرة ذنوبهم من قبل الله: (إِن تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُم مُّدْخَلًا كَرِيمًا) النساء:31.
- ونسبة الإصلاح والمغفرة لله سبحانه في إشارة إلى العناية الإلهية بهذا النموذج من الناس، كما اعتنى الله بنبيه (ص) حيث قال مثلاً: (ألم نشرح لك صدرك).
(وَمَن يُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) وهذه نتيجة أخرى للتقوى والقول السديد.