الحرب الدعائية الضخمة ضد سمعة النبي وأسرته .. تفسير سورة الأحزاب 75-62

ذكرت عندما تحدثت عن هذه السورة في الدورة الماضية، أنه يبدو من لغتها والموضوعات المعالجة فيها أن النبي (ص) وُضع تحت ضغط كبير على أكثر من صعيد، ليس فقط فيما له علاقة بغزوة الأحزاب وحفر الخندق، بل كانت هناك ضغوطات تقصّدت شخص النبي وسمعته وبيته، ومحاربته اجتماعيا، بإسقاط شخصه الكريم، وانساقت وراء ذلك طائفة من المؤمنين من حيث لا تدري.
وعالجت السورة هذا الأمر في أكثر من مقطع، ومن بينها إنزال التشريعات الخاصة بأزواجه وكيفية تعاملهن مع الرجال الأجانب، والتشدد في ذلك، وكذلك قضية زيد وزينب، ومسألة الزواج منهن أو تمني ذلك بعد وفاة النبي، والدخول إلى بيت النبي، وتناول الطعام فيه والتجوّل بالنظر فيه (53) ... إلخ، مقرونة أحياناً بلغة تهديد شديدة.
ثم جاءت الآية 56 : (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) وهي على علوّ مضمونها تُقدّم رسالة أخرى في أجواء ما تحدثنا عنه من حرب تقصدت شخص النبي وسمعته وسمعة أسرته، وكأنها تقول: إذا كان الله وملائكته يصلون على النبي، فإن من مسئوليتكم أن تصلوا عليه وتسلموا تسليماً، لا أن تخوضوا في خصوصياته وتنساقوا مع المرجفين، وأن تفكروا في أزواجه من بعده، وأمثال ذلك.... ثم تأتي الآية 57: (إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً).
الآية 53 بينت أن النبي (ص) كان يتأذى من تصرفات بعض المؤمنين عندما يدخلون بيته لتناول الطعام فيطيلون الجلوس والحديث ويجيلون النظر فيه: (إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ) ولكن المشكلة أن النبي كان يستحي أن ينهاهم عن ذلك لأنهم ضيوفه ولأنهم مؤمنون: (فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ).
ولذا فإن الآية 57 تقول لهم: لقد علمتم الآن أن هذا التصرف منكم مؤذي للنبي، وأن الذين في قلوبهم مرض والنافقين وضعاف النفوس قد يستغلون أي موقف للإساءة له، فإذا جاء منكم الإصرار على تكرار ذلك فستكونون مشمولين بالتهديد التالي: (إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُّهِيناً).

وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا ٱكْتَسَبُواْ فَقَدِ ٱحْتَمَلُواْ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً 58
ثم ألحقت حُرمة المؤمنين بحرمة الرسول تنويهاً بشأنهم، وذُكروا على حدة للإِشارة إلى نزول رتبتهم عن رتبة الرسول.
وعطف { المؤمنات } على { المؤمنين } للتصريح بمساواة الحكم وإن كان ذلك معلوماً من الشريعة، لوَزْع المؤذين عن أذى المؤمنات لأنهن جانب ضعيف بخلاف الرجال فقد يزعهم عنهم اتقاء غضبهم وثأرهم لأنفسهم.
والمراد بالأذى أذى القول بقرينة قوله { فقد احتملوا بهتاناً } لأن البهتان من أنواع الأقوال .
ومعنى الاحتمال أنهم كَلَّفوا أنفسهم حَملاً، وذلك تمثيل للبهتان بحمل ثقيل على صاحبه، وقد تقدم نظيره في قوله تعالى{ ومن يكسب خطيئة أو إثماً ثم يرم به بريئاً فقد احتمَل بهتاناً وإثماً مبيناً } في سورة النساء 112.
وليس المراد بالحال (بِغَيْرِ مَا ٱكْتَسَبُواْ ) تقييد الحكم حتى يكون مفهومه جواز أذى المؤمنين والمؤمنات بما اكتسبوا، أي أن يُسبوا بعمل ذميم اكتسبوه، لأن ذلك سيكون من الغيبة المحرمة، ولكن جيء بالحال لخصوصية البهتان وإلصاق التهم الكاذبة.


{ يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ ٱلْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } 59
هذا تشريع ووصية أخرى جاءت بها السورة لمزيد من حفظ العفة الاجتماعية، والتقليل من احتمالية إيذاء النبي والمؤمنين والمؤمنات بالقول والتهم الباطلة.
وابتدىء بأزواج النبي وبناته لأنه هو المعنيّ الأول في المسألة.
والنساء اسم جمع للمرأة، لا مفرد له من لفظه، فليس المراد بالنساء هنا أزواج المؤمنين حتى يقال أن الآية لا تشمل الفتيات العزباوات مثلاً، بل المراد الإِناث المؤمنات، وإضافته إلى المؤمنين على معنى من أي النساء من المؤمنين.
والإِدناء التقريب، وهو كناية عن اللبس والوضع، أي يضعن عليهن جلابيبهن.
والجلابيب جمع جلباب واختلف في ماهيته، وقيل هو ثوب أصغر من الرداء وأكبر من الخمار والقِناع، تضعه المرأة على رأسها فيتدلى جانباه، تلبسه عند الخروج والسفر.
والهدف هو ما دل عليه قوله تعالى { ذٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ }
والاحتمال الأول للمعنى: أي ذلك اللباس أقرب إلى أن يُعرف أنهن حرائر بشعار الحرائر - فلبس الجلباب من شعار الحرائر - فيتجنب الرجال إيذاءهن فيسلموا وتسلمن. وكانت الحرائر يلبسن الجلابيب عند الخروج إلى الزيارات ونحوها فكُنَّ لا يلبسْنَها في الليل وعند الخروج إلى المناصع، وما كنّ يخرجن إليها إلا ليلاً فأمرن بلبس الجلابيب في كل خروج.
والاحتمال الثاني: أي ذلك اللباس أقرب إلى أن يُعرف أنهن مؤمنات، بأن يكون ذلك زَيَّاً معيَّناً يتميزن به عن غير المؤمنات. فسلوك نساء أهل الكتاب مختلف، وقد لا يبالين أحياناً بالتحرش.
والاحتمال الثالث: أن ستر جميع البدن أقرب إلى أن يعرفن أنهن أهل الستر والصلاح، فلا يؤذين من قبل أهل الفسق بالتعرض لهن.
والاحتمال الرابع: أن الإدناء كناية عن مزيد من الستر، وكأن الآية تقول: فليحرصن على مزيد من الستر ولا يكتفين بالخمار والثياب، بحيث أن زيادة التستر تقلل من احتمالات التعرف عليهن، فلا يتناولن بسوء الكلام في أشخاصهن، فيقال: فلانة جميلة، وفلانة عيونها كذا .. إلخ.
وفي الدر المنثور للسيوطي «بإسناده عن أم سلمة قالت: لما نزلت هذه الآية {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلابِيبِهِنَّ} خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من أكسية سودٍ يلبسنها»
{ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً } صفح عما سبق من أذى الحرائر قبل تنبيه الناس إلى هذا الأدب الإِسلامي.
وقد يقال أنّ حكمة هذا التشريع انطلقت من مراعاة حالةٍ طارئةٍ في مجتمع المدينة الذي كان يخضع لسلوك بعض الشباب العابث الذي لا يحترم النساء، فيراودهن عن أنفسهن بتخيّل أنهن من العابثات، باعتبار أن الزيّ واحدٌ لا تختلف فيه إحداهنّ عن الأخرى، فكان من اللازم أن يُفرض للمؤمنات من نساء النبي وبناته ونساء المؤمنين زيٌّ إسلامي يتميزن به عن الأخريات من الكتابيات أو الإماء، ليبتعدن بذلك عن الأذى، ما يوحي بأنه تشريعٌ ظرفيٌّ. وعلى ضوء ذلك، فلا تكون الآية من آيات الستر الشرعي الملزم للمرأة.
لو فرضنا صحة هذا التصور، إلا أن هذا لا يعني عدم إلزامية الستر الشرعي بالحدود التي نعرفها للمرأة، لوجود آية أخرى عالجت الموضوع، وهي: (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ..) النور:31.
لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلاَّ قَلِيلا، مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا، سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا
انتقال من زَجر قوم عرفوا بأذى الرسول والمؤمنين والمؤمنات، ومن توعدهم بغضب الله عليهم في الدنيا والآخرة إلى تهديدهم بعقاب في الدنيا يشرعه الله لهم إن هم لم يقلعوا عن ذلك.
هل كان ذلك بعد تحدّيهم ما سبق من آيات زاجرة أم استباق للأحداث وسد الطريق عليهم؟ الاحتمالان قائمان.
والخطاب موجه لثلاث فئات، وقال بعض المفسرين أنهم فئة واحدة.
والحكم هو استباحة دمائهم مع التشديد وعدم التساهل، بما يدفعهم إلى النفاد بجلودهم. وهذا قريب مما جاء في سورة البقرة 191 بحق المشركين من أهل مكة: (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ).
وهذا في حد ذاته يكشف مدى تأثير هذه الحرب الدعائية التي خاضوها لتسقيط النبي وأسرته والمجتمع المؤمن.
وبهذا الوعيد انكفّ المنافقون عن أذى المسلمين وعن الإِرجاف فلم يقع التقتيل فيهم إذ لم يروَ أن النبي قتل منهم أحداً ولا أنهم خرج منهم أحد.
{سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ} فقد كان الله يمهل الكافرين والمنافقين والمرجفين مدةً من الزمن ليتوبوا وليرجعوا إليه، وليتركوا ما هم فيه من الضلال والإضلال، ثم يقضي عليهم بكل قوّة لينقذ المجتمع منهم، بطريقة العذاب النازل من السماء، أو البلاء الذي يحيط بهم من كل جانب، أو التشريع الذي تنفذه السلطة الشرعية القادرة فيهم.
{وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} لأن سنن الله في الكون والمجتمعات، لا تخضع لأوضاع طارئة لتكون شريعة مرحلةٍ معينة من الزمن، بل تخضع للمصلحة العامة لأن الله لا يترك الفساد لكي يمتد ويتجذّر في الواقع ليقضي على الحياة كلها.