تلاوة وتفسير سورة الأحزاب: 1 - 5 / الرد على إشكالية حرمة التبني


(مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ الَّلائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ، ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [4-5].
- (وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ) الأدعياء جمع دعي، وهو المتَّخذ ولداً، المدعو ابناً، وقد كان دائراً بينهم في الجاهلية، وكذا بين الأُمم الأخرى كالروم وفارس وكانوا يرتبون على الدعي أحكام الولد الصلبي من التوارث ومسائل الزواج وغيرهما. وقد ألغته هذه الآيات واعتبرته أمراً ممنوعاً.
- فمفاد الآية أن الله لم يجعل الذين تدعونهم لأنفسكم أبناء لكم بحيث يجري فيهم ما يجري في الأبناء الصلبيّين.
(ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) 5
- (ٱدْعُوهُمْ لآبَآئِهِمْ) المراد بالدعاء النسب، أي (انسبوهم لآبائهم)، أي رتّبوا آثار ذلك، وهي أنهم أبناء آبائهم لا أبناء من تبناهم.
- (هُوَ أَقْسَطُ عِندَ ٱللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوۤاْ آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي ٱلدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ) لا تتساهلوا في بقاء ما كانوا عليه بعذر أنهم لا يعلمون آباء بعض الأدعياء، والحل هو في أن يدعوهم بالأخوَّة، أو إضافة عنوان (مولى).
- (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً) أي لا ذنب لكم في الذي أخطأتم به لسهو أو نسيان فدعوتموهم لغير آبائهم ولكن الذي تعمّدته قلوبكم ذنب أو ولكن تعمد قلوبكم بذلك فيه الذنب، نتيجة العناد والتحدي والإصرار على المخالفة.
- في مقال في موقع قناة الحرة تحت عنوان (تحريم التبنّي، جريمة رجال الدين بحق الطفولة) كتب د. عماد بوظو ما مختصره: (يقدم تحريم التبنّي مثالا آخر حول كيفية قيام رجال الدين بتحميل النصوص الدينية معاني بعيدة عنها، تؤدي إلى تعقيد حياة المسلمين بما لا يتماشى مع مقاصد الشريعة ومصلحة الإنسان وخاصة الطفل الذي حرمته ظروف الحياة من عناية الأبوين. اتّبع رجال الدين المسلمون فتاوى قديمة لم يحاولوا دراستها أو التحقق من صحتها على أن التبنّي محرّم في الإسلام اعتماداً على الآية: "ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا" (الأحزاب 5)، والآية واضحة بأن انتساب الأبناء لآبائهم أكثر عدلا؛ لكن هناك فرق كبير بين عبارة "أكثر عدلا"، وبين جعل التبنّي محرّما كما ذكر رجال الدين في أحاديث نسبوها للرسول في مراحل لاحقة. أما اعتبار مجهولي النسب موالي على الطريقة التي كانت تنقسم فيها المجتمعات القديمة بين أسياد وعبيد أو أتباع فلم تعد مقبولة في عالم اليوم. وحتى في الآية التي سبقتها من سورة الأحزاب: " وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ"، فإنها تتكلم عن قصة محددة تدور حول زيد بن حارثة مولى السيدة خديجة الذي منحته للرسول بعد زواجها منه وكان زيد وقتها في الثلاثين من عمره ومن شدّة تعلقه بالرسول صار يدعى زيد بن محمد، ومن هنا أتت كلمة أدعياء أي الذين يدعون باسم شخص آخر وينسبون أنفسهم له، وما أتى بعدها من طلاقه لزوجته زينب بنت جحش وزواج الرسول منها، ولا يوجد سبب لتعميم أحكام هذه العلاقة الخاصة التي نشأت بين مولى وسيده على الرابطة المتينة التي تنشأ عند تبنّي الرضّع والأطفال وتأمين كافة احتياجاتهم والاعتناء بهم ومراقبتهم ساعة بساعة وهم يكبرون تحت أنظار والديهم.
شدد رجال الدين المسلمون خلال القرون الماضية الكثير من الحدود وبالغوا في العبادات بما يتجاوز ما هو مذكور في القرآن، ولكن ما ارتكبوه في موضوع تحريم التبنّي فاق في آثاره الضارة كل ذلك، لأنهم يلحقون أذى نفسي وجسدي بأعداد لا حصر لها من الأطفال نتيجة اتباع أحكام واجتهادات لا دليل على صحتها في قضية بالغة الحساسية.
فهناك سنويا الآلاف من الرضع وصغار الأطفال الذين يحتاجون إلى رعاية أسرية نتيجة فقدانهم آباءهم الحقيقيين؛ وهناك في نفس الوقت عائلات لم تتح لها فرصة الإنجاب؛ لذلك فإن التبني يمكن أن يكون هو الحل الذي تتحقق فيه مصلحة الجميع، ولذلك فقد اعتمدته البشرية مبكرا، ووردت قواعده وشروطه في شريعة حمورابي وما زال مستمرا حتى اليوم حيث ينتشر التبني في جميع أنحاء العالم، وأباحته كافة القوانين الوضعية والدينية ولم يحرّمه سوى رجال الدين المسلمون. يقوم نظام التبني على إنشاء شهادة ميلاد جديدة للطفل يذكر فيها الأب والأم بالتبني كآباء حقيقيين، وتكون له نفس الحقوق والواجبات التي للأبناء البيولوجيين بما فيها الإرث. ومن الممكن عند نضوج هذا الإنسان وإذا شعر والداه أن إخباره بالحقيقة لن يعرّضه لأي صدمة ولن يترك عنده أثرا ضارا إخباره بالواقع. أما في الدول الإسلامية ونتيجة تحريم التبني وضع ما سمي بنظام الكفالة وفيه يعيش الطفل مع عائلة جديدة ولكن يمنع إطلاق اسم أبوه بالتبني عليه، ولذلك فإنه في العمر بين ست وثماني سنوات ومع تعلمه القراءة والكتابة سيبدأ بالتساؤل لماذا اسم والده المستخدم في الأوراق الرسمية والمدرسة وشهادة الميلاد يختلف عن اسم الأب الذي يعيش معه بالمنزل، ولا مفر عندها من إخباره بالحقيقة مع ما يترتب على معرفته بأنه مجهول النسب أو أن أهله قد تخلّوا عنه أو أنه أتى نتيجة علاقة "غير مشروعة" من صدمة. وفي هذه الحالة، قد تأخذ علاقته مع "عائلته" شكلها الحقيقي كنوع من التصدّق والعطف على طفل يتيم غريب وليس كأحد الأبناء، ونتيجة ذلك تقوم القوانين في البلاد الإسلامية بحرمان هؤلاء الأطفال الذين لا حول لهم ولا قوة من الميراث من العائلة التي تكفلّتهم بما فيه راتب الوالدين التقاعدي، بحيث يعودون بلا معيل عند وفاة الأهل مهما كانوا أغنياء).
1)) لا يحرم التبني في الإسلام، بل يحرم نسبة غير الأبناء الصلبيين إلى المتبنّي، لما في ذلك من:
1. اختلاط الأنساب.
2. وتحريم ما هو جائز، كزواج المتبنّى من إحدى بنات العائلة التي تبنّته أو البنت من أحد أولاده.
3. ومزاحمة الورثة في أنصبتهم في الإرث على نحو الإلزام، وفي ذلك ظلم بحقهم.
4. احتمالية خداع مَن يُقدِم للزواج منها بتصوّر أنه ولد صلبي، وبالعكس فيما لو تبنّي البنت.
2)) في الحياة نادراً ما تكون القضايا الاجتماعية ذات طبيعة واحدة، إما إيجابية بالكامل، أو سلبية بالكامل.
- فالطلاق مثلاً ليس سلباً بالكامل، وليس إيجاباً بالكامل، ولكن حيث تنعدم إمكانية استمرار الحياة الزوجية ووصولها إلى طريق مسدودة، فستكون الإيجابيات أكبر أو أكثر من السلبيات.
- وهكذا هو حال نسبة الطفل المتبنّى إلى مَن تبناه، فإننا لا ننكر وجود سلبية اكتشاف الطفل في مرحلة ما أنه ليس فرداً حقيقياً من هذه الأسرة، ولكن السلبيات التي أشرنا إليها فيما لو قبلنا بنسبته إليها أكبر من ذلك.
- ولذا كان القرآن دقيقاً في بيان الأمر حيث قال تعالى: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ).
3)) اقتطاع الآية من السياق الذي تشترك فيه الاية السابقة لها (4)، قد يعطي مجالاً لادعاء عدم التحريم، ولكن عندما نضعها في سياقها، سيكون المطلوب واضحاً حيث قال تعالى: (وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ) ولن تترتب عليه أية نتيجة حقيقية (وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ) أي أن خلاف ذلك هو الباطل، وأنه ليس سبيل الهداية، ثم قال فوراً: (ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ).
- وحيث أن الآية الرابعة واضحة في أن المسألة ليست اختيارية، لذا حاول ادعاء أن قوله (وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ) تخص النبي وزيد فقط، وهو ادعاء واضح البطلان بلحاظ السياق نفسه، وكذلك بلحاظ صيغة الجمع فيها وفي الآية الخامسة، فالخطاب عام.
4)) نهاية الآية تؤكد من جديد على منع ذلك بلحاظ التفريق بين حالة الخطأ في المستقبل والتعمد، فالتعمد ممنوع (وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَـٰكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ).
5)) بداية الآية الرابعة تحدثت بصيغة النكرة (لرجل) بما يدل على التعميم، ثم تحدثت عن الظهار، ثم طرحت فوراً موضوع ادعاء الأبناء، والظهار لم يصدر عن النبي (ص)، ولذا فالخطاب عام في هذا الموضوع كما هو عام في الموضوع الأول.
6)) بالفعل أن عنوان (مولى) ما عاد مناسباً في هذا الزمان ولا مستعملاً، والآية قدّمت احتمالين:
الأول، احتمال معرفة آبائهم، فسينسبون إليهم. الثاني، عدم معرفة آبائهم، فيجعلون إخوة في الدين أو موالي. وحيث انتفى الثاني (الموالي) وما عاد يُستعمل، أو قبح استعماله مثلاً، فيبقى الأول وهو الأخوة في الدين.