خطبة الجمعة 1 صفر 1442: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية : المفتاح بيد أمير المؤمنين

- بعد رحيل رسول الله (ص)، أثيرت في الوسط الإسلامي شبهات وتساؤلات وأفكار مشوّشة ترتبط بالقضاء والقدر، والجبر والتفويض، وهل لله دور في ما يصدر عنّا من أفعال، أم لا، وهل التقدير والعلم الإلهي المسبق ينافي الاختيار عند الإنسان، أم لا، وكيف يُحاسَب الإنسان على فعلٍ قدّره الله من قبل... إلخ.
- ولم يكن طرحها دائماً بريئاً وطلباً للمعرفة، فقد كان للسياسة أحياناً دورٌ في ذلك، ولطلب الوجاهة العلمية دور أيضاً، وغير ذلك من الدوافع غير العلمية.
- وتدل بعض الشواهد التاريخية على أنه كان لأمير المؤمنين (ع) تأثير في ظهور تيار علمي يتخذ منهجاً وسطياً، لا يغالي في الجبر، ولا في التفويض، ويضع الأمور في نصابها... ثم حمل هذه المسئولية الإمامُ الباقر فالإمام الصادق من بعده، وتبناها بعض أئمة المذاهب الإسلامية.
- من هذه الشواهد الرواية التي ذكرتها في الخطبة الأولى، وفي تتمتها ما يلي: (قال: فقام إليه رجل ممن شهد معه الجمل فقال: يا أمير المؤمنين، أخبِرنا عن القدر. فقال: بيت مظلم فلا تدخله. قال: يا أمير المؤمنين، أخبرنا عن القدر. قال: سرُّ الله، لا تبحث عنه. قال: يا أمير المؤمنين أخبرنا عن القدر. قال: أما إذ أبيت، فإنه أمر بين أمرين، لا جبر ولا تفويض).
- وقد جاء بها الإمام الشافعي كدليل من الأدلة على المنهج الوسطي في الجبر والتفويض. وعلّق البيهقي الذي نقل كلام الشافعي قائلاً: (وللشافعي رحمه الله كلام كثير في مجاري كلامه يوافق ما أمر به أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، فيما روي عنه في آخر هذا الحديث)، ولا يخفى ما في هذا الكلام من إشارة إلى أن ما قال به الإمام الشافعي في هذا الباب إنما كان قد أخذه عن أمير المؤمنين (ع) واستفاده منه.
- الفخر الرازي (ت 606هـ) -صاحب التفسير الكبير وهو من أئمة الشافعية- لما تناول هذا الموضوع في كتابه (إرشاد الطالبين إلى المنهج القويم في بيان مناقب الإمام الشافعي) قال: (هذا الفصل الذي ذكره أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه فصل في غاية الجلالة، ودال على صحة القول بالقضاء والقدر).
- وهذه الشهادة من الفخر الرازي شهادة علمية، تأتي من صاحب اختصاص، وضمن بحث علمي، ولا تأتي من باب المجاملة أو المبالغة الأدبية.
- وبعد أن شرح الفكرة قال الفخر الرازي: (ونظير هذه الكلمة في الجلالة ما نُقل عنه (ع) أنه سئل عن التوحيد والعدل فقال: [التوحيد أن لا تتوهمه، والعدل أن لا تتهمه]. وهاتان الكلمتان المختصرتان مشتملتان على جميع ما ذكره المتكلمون في تصانيفهم الطويلة، ولو شرعنا في شرحهما لطال الكتاب).
- ولنلاحظ هنا أن طريق الرواية التي وصلت للإمام الشافعي مرّ عبر الإمامين الصادق والباقر (ع)، فهما كانا الأمناء على علم علي (ع)، وعملا على إيصال ذلك العلم إلى علماء الأمة وعامة الناس، لما فتح لهما المجال ليبثّا علومهما بأريحية في الأوساط العلمية.
- ويؤكد ذلك ما قاله الإمام أبوحنيفة نفسه -كما جاء في كتاب (مناقب الإمام الأعظم أبي حنيفة) للموفق بن أحمد المكي- عندما سئل عن القدَر فأجاب: (هذه مسألة قد استصعَبَت على الناس، فأنّى يطيقونها؟! هذه مسألة مقفلة قد ضل مفتاحها، فإن وُجد مفتاحُها عُلِم ما فيها. ولم تُفتح إلا بمخبر عن الله سبحانه وتعالى يأتي بما عنده، وقد فات ذلك) يقصد بوفاة النبي وانقطاع الوحي (والذي نقول... قولاً متوسطاً بين القولين، أينما مال ملتُ معه، كما قال محمد بن علي رضي الله عنهما:) أي الإمام الباقر (لا جبر ولا تفويض).
- إن الإمام أبا حنيفة في هذا التصريح يؤكّد تسليمه المطلق لهذه القاعدة التي جاءت مفتاحاً لحل واحدة من أشد معضلات المسائل الكلامية التي أثارت الانقسام في الأمة الإسلامية، ونجمت من بينها مذاهب متصارعة، وبلغ الانقسام بسببها من الشدة أن كان الانحياز لهذا القول أو ذلك سبباً للتكفير! وأما مَن قدّم المفتاح فهو الإمام الباقر (ع) الذي أخذ ذلك بدوره عن أمير المؤمنين (ع)، وورث علمه الإمام الصادق (ع)، فأهل البيت كسفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلف عنها غرق. وصدق رسول الله (ص) إذ قال، كما روي عنه بأكثر من لفظ: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي، كتابُ الله وعترتي أهل بيتي).