خطبة الجمعة 23 محرم 1442: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية : صراع الاستقامة


- المؤمن الصادق في إيمانه يعيش حالة من الصراع في هذه الحياة للحفاظ على دينه، وهي معاناة حقيقية ويومية تمس الجوانب المختلفة من حياته.
وفي الرواية التالية يقدّم الإمام زين العابدين (ع) – على ما روي عنه - صورة تمثيلية جميلة
تلخّص هذا المشهد والعوامل المختلفة الضاغطة على المؤمنين، وشدة معاناتهم، مما يستلزم منهم الحذر، ومراقبة النفس، وطلب الثبات والسداد من قبل الله عز وجل.
- عن زرارة بن أعيَن قال: (دخلت على علي بن الحسين (ع) فقال: يا زرارة، الناس في زماننا على ست طبقات؛ أسد، وذئب، وثعلب، وكلب، وخنزير، وشاة) ثم يبدأ الإمام (ع) باستعراض ما تمثّله هذه العناوين من نماذج بشرية تعجّ بها الحياة.
(فأما الأسد، فملوك الدنيا، يُحبُّ كلُّ واحدٍ منهم أن يَغلِب ولا يُغلَب) إذا كان همُّ الحاكم هو المُلك فحسب، ولم ينظر إلى شعبه، ولم يعتنِ بمملكتهِ، فسيكون وبالاً عليهم، وسعيه للحفاظ على ملكه سيدفعه إلى ارتكاب الجرائم، والظلم، وإنزال أقسى العقوبات بمجرد الشك، والدخول في صراعات وحروب مع الدول المجاورة لتوسيع ملكه، غير آبه بالأعداد الضخمة من الناس الذين يذهبون ضحية هذه الحروب، وحجم الدمار الذي تخلفه الصراعات، وتأثير ذلك على حياة شعبه.
- وأما الحاكم العادل، والساعي إلى خير مملكته، والذي يعمل على إحقاق الحقوق، ونشر العلوم، والعناية بالشئون الصحية، وتحقيق التنمية، ومواجهة الفاسدين، فستلتف الجماهير حولَه، وستغزو قلوبَهم محبتَه، وستبقى الأجيال تذكرُه بخير.
- والتعبير بالملوك هنا لا يقتصر عليهم، بل يشمل كل رجال السياسة الذين لا يخافون الله، ولا يسعون إلا من أجل السلطة أو المحافظة عليها، ولو بالخداع والقهر والابتزاز والقوة، فيَسحقون مَن يسحقون، ويَظلمون من يَظلمون.
(وأما الذئب فتجارُكم) وماذا يتوخّى من الذئب إلا أنه يريد أن يلتهمك ولا يراعي فيك ضعفاً ولا حاجة؟ والمقصود هنا خصوص الجشعين منهم الذين لا يهمهم سوى الربح الوفير ولو بالطرق غير المشروعة، ولا يعتنون بفقه التجارة وآدابِها، ومن نماذج ذلك أنهم:
(يذمّون إذا اشتروا) دون مراعاة لوضع البائع الذي قد يكون مضطراً للتخلّي عما بيده.
(ويمدحون إذا باعوا) طلباً لأعلى سعر، ولو كان الناس في وضع اقتصادي صعب.
- ولربما سعوا إلى الاحتكار، أو الغش وأمثال ذلك. وهذا مجرد نموذج من سلوكياتهم البعيدة عن الإنصاف والأخلاق.
(وأما الثعلب فهؤلاء الذين يأكلون بأديانهم، ولا يكون في قلوبهم ما يصفون بألسنتهم) سواء كانوا من علماء الدين أو من غيرهم، فهم ماكرون كمكر الثعلب لإسقاط فريسته في حبائله، همّهُم تحقيق رغباتهم في المال، أو إشباع غرائزهم الجنسية، أو الحصول على الشهرة، وأمثال ذلك.
- وهم يستغلون العنوان الديني، أو الظاهر المتديّن للخداع، وما أكثر ضحاياهم، أخزاهم الله، وما أشدّ خطرهم.. لأنهم لا يسيئون إلى أنفسهم فحسب، بل يسيئون إلى الدين والعلماء المتقين.
(وأما الكلب) فهو يمثّل ذلك النموذج من الناس الذين يستعملون القوة تجاه الآخرين بسلاطة ألسنتهم وقبح أفعالهم وبالبلطجة والظلم (يهرّ على الناس بلسانه، ويُكرمه الناس من شرّ لسانه).
- ثم يعطف الإمام (ع) على نموذج الخنزير والمتعلّق بأولئك الذين لا عفة لهم ولا حياء ولا غيرة، ويُقدِمون على الفواحش وأشنع الأفعال المرتبطة بالغريزة الجنسية، استهتاراً، أو في مقابل المال، أو إشباعاً للذة، وما أشبه ذلك. ولم تعد المسألة مقصورة على الأفراد، بل تدخل فيها وسائل الإعلام.
(وأما الشاة: المؤمنون الذين تُجَزّ شعورُهم، ويُؤكل لحومُهم، ويُكسر عظمُهم. فكيف تَصنع الشاة بين أسد وذئب وثعلب وكلب وخنزير؟). المؤمن يعيش صراع الاستقامة بين من يريد أن يفترسه، ومن يريد أن يذلّه، ومن يريد ـن يسخّره، ومن يريد أن يبتزّه، ومن يريد أن يستنزفه، ومن يريد أن يحرِفَه، ومن يريد أن يُفسده. وهذا التصوير لحال المؤمنين يشتمل على تحذير ضمني مخافة أن تُغريَهم تلك القوى المتعددة أو تضغط عليهم ليتحوّلوا إلى صفوفها، أو ليكونوا أداة من أدوات بلوغ مآربها، أو ليقعوا ضحايا ظلمها أو جشعها أو مغرياتها، الأمر الذي يستدعي منهم العمل الدائم على مراقبة النفس، وتقوية أسباب التقوى، والدعاء بحُسن العاقبة.