مراتب الأخلاق - الشيخ علي حسن - مجلس الحسينية الكاظمية 1442 هـ

قال الله «عز وجل» في كتابه الكريم: }وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَىٰ قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ{.
تحدثت في الموضوع السابق عن قيمة الأخلاق بالنسبة إلى الإنسان المسلم في حركته في الحياة وفي تكوين شخصيته وفي تأثير ذلك على مصيره الأخروي، ومما يجب أن نلتفت إليه أن للأخلاق والآداب مراتب.
• المرتبة الأولى:
الأخلاق والآداب التبادلية، وهي الأكثر رواجاً بين الناس. فبعض الناس يُحسنون إلى الآخرين إذا أحسنوا إليهم، ويتبادلون الزيارات والهدايا والتحايا في المناسبات الاجتماعية والمواقف الإيجابية، وما إلى ذلك.
الشعور بالخجل والمجاملة قد تكون الحافز وراء هذه التبادلية الأخلاقية، بحيث لا يكون للإنسان حافز لزيارة أو رد إيجابي على تواصل، ولكنه يقوم بذلك بدافع الخجل من الطرف الآخر أو حذراً من اللوم الاجتماعي.
هذا المستوى من الأخلاق والآداب لا بأس به، لاحتياج الناس إليه لانتظام حياتهم وتماسك مجتمعاتهم وتقوية علاقاتهم بدلاً من التفكك والانعزال.
• المرتبة الثانية:
الأخلاق المتجردة، وهي تمثل مستوىً أعلى من الأخلاق التبادلية. في هذا المستوى يتحول الحافز الخارجي إلى حافز داخلي ذاتي، ينبع من قوة الإيمان بالله تعالى ومحبته، أو التقدير والاستحسان للفعل في حد ذاته.
في مثل هذه الحالة لا تنتظر الأخلاق المبادرات، ولا حجمها ولا نوعيتها لتحدد الموقف بما يقابله، بل تنبع من إرادة تجسيد القيم بمعزل عن مبادرات الناس، وتنطلق من مستوى عال من تهذيب النفس وتربيتها على الإحساس بالآخر وبقيمة المبادرة تجاهه.
أرسل الله «عز وجل» - كما مرّ في الآية التي صدّرت بها الموضوع- ملائكته في هيئة بشرية وكأنهم من المسافرين، ومعهم أمران، الأول البشارة بحمل السيدة سارة بإسحاق، ثاني أولاد إبراهيم «عليه السلام».
كان الله «عز وجل» قد رزقه بإسماعيل من قبل، من أمته هاجر، ولعل بعض القرائن تساعد على القول بأن ذلك كان قبل 13 سنة من هذه الحادثة، وبعد أن ابتلاه الله بأمرين:
الأول: التخلي عن ولده الوحيد إسماعيل وأم ولده في واد غير ذي زرع، وتعريضهما للهلكة استجابة لأمر الله.
الثاني: ذبح ولده الوحيد إسماعيل، فاستجاب لأمر الله، وكاد أن يذبحه، ثم فداه الله بكبش عظيم، وكافأه على هذه الطاعة المطلقة، وتخطيه هذين الابتلاءين العظيمين، بأن رزقه بولد ثان.
يعني كاد إبراهيم «عليه السلام» أن يفقد ولده الوحيد الذي رُزق به على كبر سن، استجابة لأمر الله، فإذا به يُرزق بولد آخر مبارك، تنحدر منه ذرية عظيمة من الأنبياء، كيعقوب ويوسف وموسى وهارون ويوشع وداود وسليمان وزكريا ويحيى وعيسى بن مريم «عليهم السلام».
ثم رزقه الله من إسماعيل بولد هو سيد الأنبياء والمرسلين محمد «صلى الله عليه وآله» استجابة لدعائه: }رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ{.
إبراهيم «عليه السلام» عندما وفد عليه الضيوف، لم ينتظر أن يصدر عنهم شيء إيجابي كي يكرمهم، بل بادر بالترحيب والضيافة بالمستوى الأميز... ذبح لهم عجل سمين وشواه لهم فكاني يقطّر سمناً.. هذا من مكارم الأخلاق.
• المرتبة الثالثة: مكارم الأخلاق، وهو المستوى الأرقى من السابق. المستوى الأعلى من مكارم الأخلاق يتجلى في مثل مبادلة الإساءة بالإحسان، فالآخر لا يقف موقفاً محايداً وإنما يمارس الظلم في حقي، وتجسيد مكارم الأخلاق من جهتي يكون بمقابلة إساءته بالإحسان.
عن النبي «صلى الله عليه وآله»: (عليكم بمكارم الأخلاق، فإن الله بعثني بها. وإن من مكارم الأخلاق أن يعفو الرجل عمن ظلمه، ويُعطي من حرمه، ويصل من قطعه، وأن يعود من لا يعوده).
هذا الشخص يعلم بحاجتي، ويتمكن من المساعدة، ولكنه لا يفعل شيئاً، حتى إذا جاء وقت احتاج فيه إلى المساعدة بادرتَ بها تجاهه. إنه تعال للذات، لا لتحقير الآخر، ولا للمزايدة، بل من منطلق تهذيب النفس.
السلم الاجتماعي بحاجة إلى هذا المستوى من الأريحية الأخلاقية والرقي الإنساني، لأن نفوس البشر مجبولة على الأنانية والظلم والعدوان، ولديها قابلية شديدة لذلك، فإن لم تظهر فئة من الناس لديها مثل هذه المكارم الأخلاقية، فستزداد مساحة الظلم، تبعاً لحالات التشفي والانتقام ورد الإساءة بالمثل.
وقد تتوارث الأجيال ذلك، وتتحول إلى ثارات عائلية أو قبلية أو قومية، وتكون لها إفرازاتها الأعمق التي تؤثر على دين الناس وآخرتهم... والمسألة ليست سهلة إلا على من زكّى نفسه.
قال «عز وجل»: }وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ{.
• التشجيع على الإساءة:
ولكن يتساءل البعض: ألا تغري مكارم الأخلاق ذوي النفوس الضعيفة للاسترسال في الإساءة؟
نعم، هذا ممكن، ولكل شيء ضريبة، وعلينا تحمّل هذا الاحتمال طلباً لما هو خير، تماماً كما أمرنا الله أن نتجنّب كثيراً من الظن، بينما قد تصدق بعض تلك الظنون، لأن بعضها الآخر فقط يمثّل سوء ظن ويأثم عليه الإنسان: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ{.
وإذا حصل فسيكون الموقف الأخلاقي نفسه إساءة... ولكن في العمق يكون هذا الموقف هو الخيار الأخير الذي لا تهواه النفس نتيجة تربيتها وتزكيتها، بحيث أن الذات باقية على رقيها وسكينتها، ولا يتعقد الإنسان من خصال الخير ومكارم الأخلاق، ويستمر مع الآخرين في تصرفاته على المستوى الأرقى، لأنه لم يتحرك من موقع التشفي والأنا والانتصار للذات، بل لأن الآخر لا يقف عند حده في الإساءة إلا بمثل ذلك.
وكما مرّ معنا قوله «عز وجل» في بحث التألي: }وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ{. لا تتعقدوا من تصرفات البعض بحيث تمنعكم من فعل المعروف بصوره المختلفة.
أبو عزة الجُمحي واسمه عمرو بن عبد الله، من شعراء مكة المشركين، وكان يهجو النَّبِيَّ «صلى الله عليه وآله» ويسيء إليه، أُسر في غزوة بدر فيمن أُسر من المشركين، فَضَرع إلى النَّبِيِّ «صلى الله عليه وآله» أن يعتقه دون فداء، وقال: (يا محمد، إني فقير وذو حاجة قد عرفتها، فامنُن عليَّ لفقري وبناتي) ولديه خمس بنات (فرقَّ الرسول وأطلقَه، بعد أن أخذ عليه الميثاق ألَّا يُظاهر عليه).
ولما أجمعت قريش على غزوة أحد في السنة القابلة، قالت: نسير في العرب فنستنصرهم، فاجتمعوا على أن يبعثوا أربعة من قريش يسيرون في العرب يدعونهم إلى نصرهم، فبعثوا عمرو بن العاص، وهبيرة بن أبي وهب، وابن الزبعري، وأبا عزة الجمحي، وهم بين شاعر وداهية، فأطاع النفر وأبي أبو عزة أن يسير، وقال: (منّ عليَّ محمدٌ يوم بدر ولم يمنّ على غيري، وحلفت لا أظاهر عليه عدواً أبداً. فمشى إليه صفوان بن أمية فقال: اخرج؟ فأبى فقال: عاهدتُ محمداً يوم بدر لا أظاهر عليه عدواً أبداً، وأنا أفي له بما عاهدته عليه. منّ علي ولم يمنّ على غيري حتى قتله أو أخذ منه الفداء. فقال له صفوان: اخرج معنا، فإن تَسلم أُعطك من المال ما شئت، وإن تُقتل كان عيالك مع عيالي. فأبى أبو عزة حتى كان الغد، وانصرف عنه صفوان بن أمية آيساً منه، فلما كان الغد جاءه صفوان وجبير بن مطعم، فقال له صفوان الكلام الأول فأبى، فقال جبير: ما كنت أظن أني أعيش حتى يمشي إليك أبو وهب في أمرٍ تأبى عليه! فأحفظه، فقال: فأنا أخرج! قال: فخرج في العرب يجمعها، وخرج معه النفر فألّبوا العرب وجمعوها).
وفي أُحُد أسر الرجل، ويقال أنه الأسير الوحيد من قريش، فتوسّل إلى النبي أن يعفو عنه مرة أخرى، فقال له «صلى الله عليه وآله»: (لا والله، لا تَمْسَح عَارضَيْك بمكة، وتقول: خدعت محمدًا مرَّتين، لا يُلدغ المؤمن من جُحْر واحد مرتين، اضرب عنقه يا زيد).
• إمام مكارم الأخلاق:
وقد كانت للأخلاق الرفيعة وأعلى مراتب مكارم الأخلاق للإمام الحسين «عليه السلام» تجلياتها الرائعة في أجواء كربلاء، بكل ما حملته تلك الأجواء من أخبار سيئة مُحبِطة تمثّلت في وصول نبأ استشهاد مسلم بن عقيل وهانيء بن عروة وعبد الله بن يقطر.
وبكل ما حملته من مواقف الخذلان المتمثلة في تبدّل موقف الكوفيين، وفي الانسحاب الكبير من قبل النفعيّين الذين سايروا الإمام وهم يتصورون أنهم سائرون لقطف ثمار انتصارٍ سهلٍ في بلد سلَّم قيادَه طواعية للإمام «عليه السلام».
وبكل تعقيدات المعركة التي تمثلت في المواجهة غير المتكافئة عدداً بين طرفي المعركة.. وغير ذلك. كل هذه الظروف لم تسلخ الإمام الحسين «عليه السلام» عن أخلاقه الرفيعة، لأنها جزءٌ لا يتجزأ من شخصيته العظيمة: }إنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا{ هذه طبيعة الإنسان في الشدائد وعند تكاثف النعم، ولكن تبقى الفئة المميزة مختلفة سلوكياً ونفسياً: }إِلاَّ الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ، وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ، لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ، وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ، وَالَّذِينَ هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ، إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُم بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ، أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ{.
مجموعة هذه الالتزامات تربي الإنسان على أن يكون مختلفاً في الشدائد وحين تكاثر النعم، فلا يفقد توازنه الأخلاقي.
وقد تجلت أخلاقُ الإمام الحسين «عليه السلام» الرفيعة في علاقته مع أصحابه، وقد خاطبهم في ليلة العاشر في الظرف العصيب الذي يبحث فيه القائد عن الأنصار: (إن هذا الليل قد غشيكم فاتخذوه جملاً وليأخذ كل واحد منكم بيد رجل من أهل بيتي فان القوم لا يريدون غيري). لئلا يحمّلهم مسؤوليةً استحياءً منه أو خوفاً.
وتجلّت أخلاقه كأروع ما يكون في علاقته مع أعدائه حين التقى بجيش الحر، فأمر أصحابه بأن يسقوهم الماء ويرشفوا خيولَهم.
في الإرشاد للشيخ المفيد: (ثم سار «عليه السلام» من بطن العقبة حتى نزل شراف، فلما كان في السحر أمر فتيانه فاستقوا من الماء فأكثروا، ثم سار منها حتى انتصف النهار، فبينا هو يسير إذ كبر رجل من أصحابه فقال له الحسين عليه السلام: الله أكبر، لم كبرت؟ قال: رأيت النخل، فقال له جماعة من أصحابه: والله إن هذا المكان ما رأينا به نخلة قط، فقال الحسين عليه السلام: فما ترونه؟ قالوا: نراه والله آذان الخيل. قال: أنا والله أرى ذلك. ثم قال عليه السلام: ما لنا ملجأ نلجأ إليه فنجعله في ظهورنا، ونستقبل القوم بوجه واحد؟ فقلنا: بلى، هذا ذو حسمى إلى جنبك، تميل إليه عن يسارك، فإن سبقت إليه فهو كما تريد. فأخذ إليه ذات اليسار وملنا معه، فما كان بأسرع من أن طلعت علينا هوادي الخيل، فتبيناها وعدلنا، فلما رأونا عدلنا عن الطريق عدلوا إلينا كأن أسنتهم اليعاسيب، وكأن راياتهم أجنحة الطير، فاستبقنا إلى ذي حسمى فسبقناهم إليه، وأمر الحسين عليه السلام بأبنيته فضربت. وجاء القوم زهاء ألف فارس مع الحر بن يزيد التميمي حتى وقف هو وخيله مقابل الحسين عليه السلام في حر الظهيرة، والحسين وأصحابه معتمون متقلدوا أسيافهم، فقال الحسين عليه السلام لفتيانه: اسقوا القوم وأرووهم من الماء، ورشِّفوا الخيل ترشيفاً. ففعلوا وأقبلوا يملؤون القصاع والطساس من الماء ثم يدنونها من الفرس، فإذا عب فيها ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً عُزلت عنه وسقوا آخر، حتى سقوها كلها. فقال علي بن الطعان المحاربي: كنت مع الحر يومئذ فجئت في آخر من جاء من أصحابه، فلما رأى الحسين عليه السلام ما بي وبفرسي من العطش قال: أنخ الراوية. والراوية عندي السقاء، ثم قال: يا ابن أخي، أنخ الجمل. فأنخته فقال: اشرب. فجعلت كلما شربت سال الماء من السقاء، فقال الحسين عليه السلام: اخنث السقاء. أي اعطفه، فلم أدر كيف أفعل، فقام فخنَثه فشربت وسقيت فرسي).
لقد كان بإمكان الحسين «عليه السلام» وهو يقطع الطريق في مفاوز قفار سحيقة، أن لا يُفرِّط بقطرة ماء، لكنها تمام مكارم الأخلاق التي تجلّت في لمحة إنسانية ملائكية يندر أن يكون لها نظير في تاريخ البشرية.