الأخلاق بين الثبات والنسبية - الشيخ علي حسن - مجلس الحسينية الكاظمية 1442 هـ

(لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) [آل عمران:164].
للأخلاق والآداب السلوكية في شخصية وحركة الإنسان المسلم في الحياة الأهمية الكبيرة والحيوية، سواء أكان في مواطن الأمن والدعة والرخاء، أم كان في أوقات التحدي والمواجهة والصراع.
والأخلاق موضوعة من موضوعات الرسالة السماوية كما دلت على ذلك الآية التي بدأت بها.
فعملية التزكية تشمل بعث القيم الأخلاقية في النفوس، وترسيخها، ومكاملتها، وتوضيح المبهمات منها. وبها يكتمل الإيمان، فعنه (ص): (أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً).
وبها يرتفع مقام الإنسان عند ربه، فعن النبي (ص): (أحبُّ عبادِ الله إلى الله أحسنُهم خلقاً).
القيم الأخلاقية فطرية تولد مع الإنسان، ولكنها بمرور الزمان وتأثير العوامل المختلفة كالتربية والبيئة وضغط الرغبات الشخصية وغير ذلك، تخبو، وتضعف، وتختفي، وتتبدل، وتصبح معالمها غير واضحة.
الرسالات السماوية تعيد إليها الحياة، وبريقَها الضائع، وتُكاملها، وتُحفّز على التمسّك بها، وتُبيّن أبعادها الدنيوية والأخروية، ليتحقق من خلال ذلك تكامل الإنسان كفرد، وليتحقق للمجتمع في العلاقات البينية المختلفة شيء من الاستقرار والأمن.
ويقدّم الإمام زين العابدين (ع) في دعاء (مكارم الأخلاق ومرضي الأفعال) لائحة بمجموعة كبيرة مِن القيم الأخلاقية الإيجابية التي ترتقي بالإنسان في سلوكياته الاجتماعية، وتعمل على توطيد الأمن في المجتمع إن التزم بها الآخرون: (اللَّهُمَّ صَـلِّ عَلَى مُحَمَّـد وَآلِـهِ وَحَلِّنِي بِحِلْيَـةِ الصَّالِحِينَ، وَأَلْبِسْنِي زِينَةَ المُتَّقِينَ فِيْ بَسْطِ الْعَدْلِ وَكَظْمِ الْغَيْظِ وَإطْفَاءِ النَّائِرَةِ وَضَمِّ أَهْلِ الْفُرْقَةِ وَإصْلاَحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَإفْشَاءِ الْعَارِفَةِ، وَسَتْرِ الْعَائِبَةِ، وَلِينِ الْعَرِيكَةِ، وَخَفْضِ الْجَنَـاحِ، وَحُسْنِ السِّيرَةِ، وَسُكُونِ الرِّيـحِ، وَطِيْبِ الْمُخَالَقَـةِ، وَالسَّبْقِ إلَى الْفَضِيلَةِ، وإيْثَارِ التَّفَضُّلِ، وَتَرْكِ التَّعْبِيرِ وَالإفْضَالِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ وَالـقَوْلِ بِالْحَقِّ وَإنْ عَـزَّ، وَاسْتِقْلاَلِ الخَيْـرِ وَإنْ كَثُـرَ مِنْ قَـوْلِي وَفِعْلِي، وَاسْتِكْثَارِ الشَّرِّ وَإنْ قَلَّ مِنْ قَوْلِي وَفِعْلِي).
ومع وضوح الموقعية المتميزة للأخلاق في تصوراتنا، وجمال الصورة التي ترسمها، إلا أن في البين مَن صار يتحدّث بمنطق آخر يتعارض مع ما قدّمت.
من بين القضايا والأفكار التي يطرحها بعض الملحدين وأشباه الملحدين، مسألة نسبية الأخلاق وعدم ثباتها.. ولكي يتوضّح مفهوما النسبية وعدم الثبات، أقدّم الأمثلة التالية.
تقف أمام القاضي في قضية ما كشاهد، فتشهد بالحقيقة، فيدخل المتهم بسبب شهادتك السجن... فِعْلُك هذا ذو بُعد أخلاقي مرتبط بالصدق والكذب.. صِدقُك في هذا الموقف أمرٌ حسن بالنسبة إليك، وقبيح بالنسبة إلى المتهم.
وتقف أمام القاضي في قضية أخرى كشاهد، فتشهد كاذباً، وتنقذ أباك من السجن.. يستحسن أبوك وأقرباؤك هذا الكذب.. أي أنّ حُسنَ الصدق والكذب أمرٌ نسبي.
تتعرّض للتهديد من قبل عدو، فتكذب وتستعمل التقيّة لتُنقذ نفسك وأسرتَك.. أليس في التقيّة والكذب في هذا الموقف دلالة على نسبية القيم الأخلاقية؟
وهكذا، تجد أن الأخذ بالثأر كان أمراً مقبولاً في زمن ما، بل مفخرة من المفاخر، وهو اليوم قبيحٌ في كثير من المجتمعات.. وحَسَنٌ في بعضها، ولو على نطاق ضيّق.
إذاً ــــ يقول أصحاب هذه المقولة ــــ لا وجود لقيم أخلاقية ثابتة، بل الأخلاق متغيرة بحسب الزمان والمكان، وبتغيّر الظروف أيضاً.
كما أنها نسبية في الحُسن والقُبح، لأن الأخلاق ـــ بحسبهم ـــ من صنع الإنسان، وهي ترتبط أيضاً بمصالحه الفردية.
ومثل الصدق، بر الوالدين والأمانة والشجاعة والكرم والوفاء والعدل والتعاون.. إلخ.
ويضيفون أنه لربما صنَع مجتمع ما قِيَمَه الخاصة به.. في بعض المجتمعات -كما كان عند الفايكنج- أن من إكرام الضيف تقديم الرجل زوجته له لتشاركه فراشَه! فهل يصح حينئذ أن نفرض هذه القِيَم على مجتمع آخر؟ بالطبع لا، كما لا يصح أن نطالب ذلك المجتمع بالتخلي عن القيم الأخلاقية التي صنعها لنفسه.
في بعض المجتمعات من القبيح أن تعانق وتقبّل رجلاً على وجنتيه عند تحيته، بينما يُعتبر ذلك من الأمور الحسنة والدالة على حرارة الترحيب به.
وبمرور الزمان أو تُبدّل الظروف، قد يُغيّر نفس هذا المجتمع بعضاً من هذه القيم التي اختارها، لأنها أيضاً ليست ثابتة.
هذه الرؤية التي تبنّاها البعض خلال العقدين الماضيين، برزت من قبلُ في القرن العشرين، ولكنْ لها أصول في الفلسفة اليونانية، ونوقشت في أطُر دينية وفلسفية واجتماعية عديدة.
والحديث عنها ليس ترفاً فكرياً، بل هي مسألة حساسة تؤثّر على السلوك الإنساني، لأن قبول هذه الرؤية يعني أنّ بإمكاني فِعْل ما أشاء، وسيكون فِعْلي موصوفاً بالحُسن ما دام أنه في مصلحتي، وما دمت لن أتضرّر من الناحية القانونية، بسبب ضعف الرقابة أو التطبيق أو لانعدام القانون.
وهو حسنٌ ولو بلغ الأمر قتل الأبرياء، ونهب الأموال، والغش التجاري وما إلى ذلك.
بالإضافة إلى تأثيرها على مصير الإنسان في الآخرة بحسب معتقدنا كمسلمين، لأن الإنسان محاسب على أفعاله كما هو محاسب على إيمانه.
إسلامياً، نحن نعتقد أن القيم الأخلاقية مطلقة وثابتة، لأنها نابعة من الفطرة الإنسانية، والفطرة طبيعة ثابتة لا تتغير ولا تتأثر بالزمان والمكان والظروف المتغيّرة.. فكيف نفسّر إذاً ما سبق؟
1. هناك خلط بين الأخلاق والآداب، ولابد من أن نفرّق بينهما.
فالتعامل الحسَن مع الآخرين قيمة أخلاقية إيجابية، وحُسن الضيافة كذلك قيمة أخلاقية إيجابية، وأما التقبيل والمعانقة والمصافحة والإطعام ومبيت الضيف ثلاث ليال، وأمثال ذلك فمن الآداب.
وكلامنا عن القيم الأخلاقية لا عن الآداب والعادات والتقاليد، فالأولى ثابتة، والثانية قابلة للتغيّر بتغير الزمان والمكان والظروف.
2. هناك خلط أيضاً ما بين نسبية الأخلاق وتقديم الأَوْلى عند التعارض.. فعند اللجوء إلى الكذب تقيّةً لدفع ضرر محتمل من عدو، تكون مخيّراً بين قبيحين، الأول هو الكذب، والثاني هو التسبب في قتل إنسان مثلاً.. وأحدُهما أشد ضرراً من الآخر.. ولذا فقد اخترتَ الأقل ضرراً.
في هذا الموقف لم يتحوّل الكذب إلى قيمة أخلاقية إيجابية، ولا الصدق إلى قيمة أخلاقية سلبية، بل يبقى الكذب في نفسه قبيحاً، ولكنه أقل ضرراً وقُبحاً من التسبب في قتل إنسان بريء.
ولذا فإنه بمجرد زوال الظرف الطاريء وعودة الأوضاع إلى طبيعتها، إذا صدر عنك كذب، فلن تُمتَدَح عليه.
شهادة الزور والظلم المترتب عليه فعل أخلاقي قبيح على كل حال، وحتى لو كان لتبرئة قريبٍ لي بالباطل.. فكون المتهم أبي أو أخي لا يحوّل شهادة الزور والظلم إلى فعل أخلاقي حسن، ولن يكون مبرِّراً مقبولاً للكذب.
وعندما أكون بين خيارين، البِر والعدالة، كان تطبيق العدالة أولى من أي عنوان آخر، ومن هنا قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [النساء:135].
3. تحقيق العدالة بالاقتصاص من القاتل فِعل ذو بُعد أخلاقي حسَن، مارسَته بعض المجتمعات في صورة الأخذ بالثأر على المستوى الشخصي، فكان حسناً وممدوحاً.. ونظّمته مجتمعات أخرى ضمن تشريعات قانونية وبوسائل محددة، فصار الأخذ بالثأر على المستوى الشخصي قبيحاً لتعارضه مع التنظيم القانوني، ولاحتمالية الوقوع في فوضى إجرائية من قبيل الإسراف في القتل: (وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا) [الإسراء:33].
ولن يكون الفعل الصادر عن الفرد ممدوحاً عندما يعيش التمرّد على التشريعات القانونية المنظِّمة لسلوكيات الأفراد تجاه بعضهم البعض، حتى لو تصوّر هذا الفرد أنه يُحسِن صُنعاً عندما قيّم الأمور من منظور فردي، بينما المسألة لا ترتبط به فقط، بل وبالآخرين وبالمجتمع.
القيم الأخلاقية كالصدق، والأمانة، والعدالة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والشجاعة، وحسن التعامل مع الناس، كلها قيمٌ مطلقةٌ وثابتة، غير متبدّلة بتبدّل الزمان والمكان والظروف، وهي فطرية من صنع الله تعالى، لتكون وسيلة لهداية الإنسان في هذه الحياة وتقويم سلوكه وتحقيق غاية من غايات وجوده: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [الحجرات:13].
كما أنها لا تُقيَّم من خلال المنظور الفردي وبما يرتبط بي أنا فقط من منافع ومضار.
وما دعوة الملحدين وأشباه الملحدين إلى القول بنسبية الأخلاق وعدم ثباتها إلا بمثابة المَدخل لإقحام البشرية في حالة من الفوضى السلوكية على كافة المستويات الاجتماعية والسياسية والثقافية والقانونية والأمنية والاقتصادية، وعودة إلى التخلف في السلوك الاجتماعي، علاوة على ما سيترتب على ذلك من مفاسد لا يعلم مداها إلا الله سبحانه وتعالى.
ولذا لا يستطيع الإنسان إلا أن يقف موقف الإكبار والإجلال عبر التاريخ للإمام زين العابدين في الحدث التالي الذي رواه الطبري في تاريخه: (وفى هذه السنة وُلّي الوليد عمر بن عبد العزيز المدينة.... وقدم على ثلاثين بعيراً، فنزل دار مروان.... دخل عليه الناس فسلموا فلما صلى الظهر، دعا عشرة من فقهاء المدينة عروة بن الزبير وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة وأبا بكر بن عبد الرحمن، وأبا بكر بن سليمان بن أبي خيثمة، وسليمان بن يسار، والقاسم بن محمد، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عبد الله بن عمر، وعبد الله بن عامر بن ربيعة، وخارجة بن يزيد، فدخلوا عليه فجلسوا، فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ثم قال: إني إنما دعوتكم لأمر تؤجرون عليه، وتكونون فيه أعواناً على الحق، ما أريد أن أقطع أمراً إلا برأيكم أو برأي مَن حضر منكم، فإن رأيتم أحداً يتعدى أو بلغكم عن عامل لي ظلامة فأُحرج الله على من بلَغه ذلك إلا بلّغني. فخرجوا يُجزونه خيراً، وافترقوا. قال: وحدثني محمد بن عبد الله بن محمد بن عمر عن أبيه قال: كان هشام بن إسماعيل) الوالي السابق للمدينة (يُسئ جوارنا ويؤذينا، ولقى منه علي بن الحسين أذى شديداً، فلما عُزل، أَمر به الوليد أن يوقَف للناس، فقال: ما أخاف إلا مِن علي بن الحسين. فمرّ به علي، وقد وقف عند دار مروان، وكان علي قد تقدّم إلى خاصّته أن لا يَعرض له أحدٌ منهم بكلمة، فلما مرّ ناداه هشام بن إسماعيل: الله أعلم حيث يجعل رسالته).
نفس الإمام زين العابدين هذا سلام الله عليه أُوقف أمام ابن زياد وأمام يزيد رغبة التشمّت به من قبلهما، فإذا بالإمام يقلب الأمور عليهم، وكأن المشهد كان مصداقَ قوله تعالى: (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ).
وقف الإمام ليقول ليزيد برواية ابن أعثم الكوفي في الفتوح: (ويلك يا يزيد! إنك لو تدري ما صنعتَ وما الذي ارتكبتَ مِن أبي وأهلِ بيتي وأخي وعمومتي، إذاً لهربتَ في الجبال وفرشت الرَّماد، ودعوتَ بالويل والثُّبور أن يكون رأسُ الحسينِ ابنِ فاطمة وعلي منصوباً على باب المدينة! وهو وديعة رسول الله (ص) فيكم، فأبشِر بالخزي والندامة غداً إذا جُمع الناس ليومٍ لا ريب فيه).
- وأضاف ابن أعثم: (ثم دعا يزيد بالخاطب وأمر بالمنبر فأُحضِر، ثم أمر الخاطب فقال: اصعد المنبر فخبّر الناس بمساوئ الحسينِ وعليٍّ وما فعلا! قال: فصعد الخاطب المنبر فحمد الله وأثنى عليه، ثم أكثر الوقيعة في علي والحسين، وأطنب في تقريظ معاوية ويزيد، فذكرهما بكل جميل. قال: فصاح علي بن الحسين: ويلك أيها الخاطب! اشتريتَ مرضاةَ المخلوقِ بسَخَط الخالق، فانظر مقعدك من النار. ثم قال علي بن الحسين: يا يزيد، أتأذن لي أن أصعد هذه الأعواد فأتكلم بكلام فيه رضا الله ورضا هؤلاء الجلساء، وأجرٌ وثواب؟ قال: فأبى يزيد ذلك، فقال الناس: يا أمير المؤمنين، ائذن له ليصعد المنبر، لعلنا نسمعُ منه شيئاً! فقال: إنه إنْ صعَد المنبر لم ينزل إلا بفضيحتي أو بفضيحة آل سفيان، قيل له: يا أمير المؤمنين، وما قَدْرُ ما يُحسِنُ هذا؟ قال: إنه من نسلِ قوم قد رُزقوا العلم رِزقاً حسناً. قال: فلم يزالوا به حتى صعَد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم خطب خطبة أبكى منها العيون وأوجل منها القلوب...) وذكر الخطبة المعروفة.