العلو في الأرض - الشيخ علي حسن - مجلس الحسينية الكاظمية 1442 هـ

قال «تعالى»: }تِلْك الدّارُ الْآخِرةُ نجْعلُها لِلّذِين لا يُرِيدُون عُلُوًّا فِي الْأرْضِ ولا فسادًا والْعاقِبةُ لِلْمُتّقِين{. قد يكون المعنى المتبادر إلى الذهن من اختصاص الآية بفئة معينة من الناس تمتلك من القدرة والسلطان ما يجعلها عُرضة للوقوع في فخ (العلو في الأرض) والاستكبار على الخلق وبالتالي تكون سبباً للفساد. إلا أن الخبر التالي المروي عن أمير المؤمنين علي «عليه السلام» يفتح لنا أفقاً أرحب، ويُخرج المسألة من نطاق الفهم الضيق الى الشمولية في التطبيق، حيث روي أنه قال: (إن الرجل ليعجبه من شِراك نعله أن يكون أجود من شراك نعل صاحبه، فيدخل في قوله «تعالى»: }تِلْك الدّارُ الْآخِرةُ نجْعلُها لِلّذِين لا يُرِيدُون عُلُوًّا فِي الْأرْضِ ولا فسادًا والْعاقِبةُ لِلْمُتّقِين{) وشراك النعل هو ما يعبّر عنه برباط الحذاء.
بالطبع لا يقصد الإمام أن مجرد الرغبة في اقتناء الشيء هو السبب لدخوله ضمن من تستهدفهم الآية الشريفة، بل بخصوصية رغبته في الاستعلاء على غيره بذلك، بدليل كلمة (أجود) الواردة في الرواية والتي تبين حالة المقارنة والتنافس والتعالي، وإلا فإن نفس الرغبة في اقتناء ما هو حسن أو جميل أمرٌ لا يعيبه الإسلام، وقد روي أن رجلاً قال للنبي الأكرم «صلى الله عليه وآله»: (يا رسول الله إني أحب أن يكون ردائي حسناً ونعلي حسنة، أ فمن الكبر ذلك؟ فقال: لا، إن الله جميل يحب الجمال).
ومن أهم مداخل (العلو في الأرض) ما جاء في قوله «تعالى»: }ولا تمُدّنّ عيْنيْك الىٰ ما متّعْنا بِهِ أزْواجًا مِّنْهُمْ زَهْرةَ الْحياةِ الدُّنْيا لِنفْتِنهُمْ فِيهِ ورِزْقُ ربِّك خيْرٌ وأبْقَى{.
فهذا (المد للعينين) كان وما زال سبباً للكثير من المآسي التي يقع فيها الناس.
فكم من شخص كتب شيكات بلا رصيد، ودخل السجن، ودمّر أسرتَه بسبب مد العين!
وكم من أسرة تفككت بسبب ضغط الزوجة لتملُّك ما هو أفضل مما يتملكه الآخرون، بسبب مد العين!
وكم من سرقات وخيانات مالية وقعت بسبب مد العين!
وكم من امرأة سلكت طريق الفواحش بسبب مد العين!
وكم من جريمة قتل وسطو ارتُكبت بسبب مد العين!
وكم من شاب تحول إلى تاجر مخدرات ومتعاطي لها بسبب مد العين!
وكم من إنسان نسي المسجد ونسي الصلاة ونسي الآخرة ونسي الموت ونسي ربه بسبب مد العين!
• حلول ضمنية:
قدمت الآية الشريفة ضمنياً مفاتيح الحل لتجنب الوقوع في مآسي مد العين، ونلخصها في النقاط التالية:
1. الإيمان بأن هذه المظاهر المادية ليست سوى زهرة جميلة عطرة، في ما تمثله الزهرة من وجود طارئ لا يطول دوامه، فهي تتوهج وتجذب الأنظار ثم سرعان ما تخبو ثم تذروها الرياح: }واضْرِبْ لهُم مّثل الْحياةِ الدُّنْيا كماءٍ أنزلْناهُ مِن السّماءِ فاخْتلط بِهِ نباتُ الْأرْضِ فأصْبح هشِيمًا تذْرُوهُ الرِّياحُ وكان اللهُ علىٰ كُلِّ شيْءٍ مُّقْتدِرًا{.
2. أن هذه المظاهر هي زينة كما أن الزهرة زينة ومن الكماليات، وبالتالي فهي لا تمثل الأساس والأصل في التقييم، تماماً كمن يشتري بيتاً مبنياً على أسس ضعيفة وخدمات صحية وكهربائية ومواد عازلة غير متقنة، ولكنه يقتنيه انبهاراً بديكوراته الجميلة.. فإنه سرعان ما يكتشف الخطأ الكبير الذي وقع فيه، وذلك حين تبدأ تلك العيوب بالظهور لتكلّفه الكثير، وتُفقده الإحساس بلذة الاستقرار والحياة الهنيئة فيه.
3. أن هذه المظاهر قد تنقلب وبالاً على الإنسان إن لم يحسن التصرف بها، فهو مختبَر بها ومحاسب عليها، وفق منطق الفتنة الوارد في الآية.
4. الإيمان بحكمة الله في ما يَقسمه بين عباده من رزقٍ في الدنيا، والرضا بذلك، فالخير في ما اختاره الله «سبحانه» لعبده. عن عليٍّ «عليه السلام»: (نِعْمَ طارد الهموم: اليقين) اليقين بحقيقة الدنيا ومحدودية الحياة فيها، وبالآخرة والحساب والثواب والعقاب فيها، وبالعدالة الإلهية، وبالإحاطة الإلهية، وبالقضاء والقدر، وبطبيعة توزيع الأرزاق وبرحمة الله.
ولذا قال «عليه السلام» أيضاً: (نِعمَ الطّاردُ للهمِّ: الاتّكالُ على القدر) والرضا بقضاء الله وقدره، فقد نفكر ونخطط ونعمل بالشكل الصحيح ولكن لا يأتي الرزق كما نريد. وفي وصية الإمام علي لابنه الحسن: (فَلَيْسَ كُلُّ طَالِب بِمَرْزُوق) فالرزق لا يرتبط فقط بمقدار ما تبذل من جهد، فمن الناس من يبذل جهداً أكبر من سواه، ومع هذا تجده لا يكسب بمقدار من يبذل جهداً أقل من ذلك.. بل تجد دكانين، أحدهما مزدحم بالزبائن والآخر فارغ وكلاهما يقدم ذات الخدمة وذات البضاعة. إذاً لابد أن ندرك أن هناك معادلة أخرى.
ومن هنا أيضاً نفهم مسألة الدعاء للرزق والتوكل والرضا بقِسَم الله. فقد يقول قائل أنا أوفِّر كل لوازم النجاح، فلم الدعاء؟ في غفلة أن تدبير الأمور بيد الله، وأن التوفيق ليس إلا بالله.. قال النبي شعيب «عليه السلام»: }قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّـهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ{.
وفي دعاء الافتتاح: (فإن أبطأ عنّي عَتَبْتُ بِجَهلي عليكَ، ولعل الذي أبطأ عنّي هو خيرٌ لي لعلمِك بعاقبةِ الأمور).. وهذه الجملة من روائع التعبير عن هذه الحقيقة الإيمانية التي نحتاج دائماً إلى تذكّرها، ونعم المعين هي على الهموم والمصاعب ومتغيرات الحياة.
5. أولوية مد العين إلى رزق الله في الآخرة، فهو خير وأبقى، وهي الدار التي من أجلها خُلق الإنسان، وهي دار البقاء، والدنيا دار الفناء... فلنعمل لما هو خير وأبقى، على الأقل كما نعمل لهذه الدنيا الفانية.
• دعاء الزهراء:
روى العلامة السيد محسن الأمين في كتابه «أعيان الشيعة» الدعاء التالي عن مولاتنا فاطمة الزهراء «عليها السلام»: (اللهم قنِّعني بما رَزقتني، واستُرني وعافني أبداً ما أبقيتني، واغفر لي وارحمني إذا توفّيتني، اللهم لا تُعنِّني في طلب ما لم تُقدِّر لي، وما قدَّرتَه عليّ فاجعله ميسَّراً سهلاً..... اللهم فرِّغني لما خلقتني له، ولا تُشغِلني بما تكفَّلتَ لي به....).
دمار بعض الأُسَر يأتي نتيجة عدم القناعة.. رب الأسرة يريد الثراء السريع، ويُدخل نفسَه في دوامة من الديون، لينتهي به المطاف في السجن، أو منتحراً، أو هارباً من القانون.. ويترك وراءه أسرة بكاملها تعاني مرارة العيش بسببه.
وقد تكون الزوجة بمطالبها اللا محدودة، وما تعيشه من حسد وغيرة من أخواتها وصديقاتها وجاراتها سبباً لتعاسة الأسرة وتفككها، وما يستتبع ذلك من دخول الأبناء في عالم الإجرام أو المخدِّرات أو غير ذلك.
وقد يقع الشاب بتهوّره - نتيجة إلحاح الشهوات - فريسة لأمل الثراء السريع، أو تلبية رغباته الملحّة.. سيارات فارهة.. علاقات نسائية غير محدودة.. بذخ.. ويسعى لتحققها على طريقة الوجبات السريعة.. فيكون مصيره الدخول في عالم الممنوعات.. أو الصفقات المشبوهة.. وأمثال ذلك، مما يؤدي به إلى نهايات مأساوية.
مفتاح الحل بسيط جداً.. كلمات قالتها الزهراء «عليها السلام» في دعائها: (اللهم قنِّعني بما رزقتني).
ومن جملة الالتفاتات الرائعة في هذا الدعاء المقطع التالي: (اللهم لا تُعنِّني في طلب ما لم تُقدِّر لي).. قد يتصوّر الإنسان أن ما أمامه بمثابة فرصة العمر.. فيبذل الجهد والوقت والمال والصحة... ولكن في نهاية المطاف يتبيّن له أنه كان سراباً فحسب.
ولذا تدعو الزهراء «عليها السلام» أن يا رب افتح لي بصيرتي منذ البداية كي أميّز ما بين الأمور.. فوفّقني لتلك التي تعود عليّ بالخير، وتتحقق من خلالها النتائج الإيجابية.. ولا تجعلني أعاني الأمرّين في سبيل تحصيل ما لم تُقدِّر لي من خلاله ما يعود عليّ بالنفع، إما لأنه لن يتحقق، أو لأن فيه مضرّتي.
ومن يمدّ عينيه إلى ما متع الله به غيره ويعيش الاستغراق في ذلك، لا يمكن أن يكون صادقاً حين يقول: (يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً) لأن الذين كانوا مع الحسين هم الذين باعوا دنياهم لآخريتهم، ولم يجعلوا الدنيا أكبر همهم.
• موقف ابن سعد:
في تاريخ الطبري: (ثم نزل وذلك يوم الخميس وهو اليوم الثاني من المحرم سنة 61، فلما كان من الغد قدِمَ عليهم عمر بن سعد بن أبي وقاص من الكوفة في أربعة آلاف. قال: وكان سبب خروج ابن سعد إلى الحسين عليه السلام أن عبيد الله بن زياد بعثه على أربعة آلاف من أهل الكوفة يسير بهم إلى دستبَى) منطقة بين قم وهمدان (وكانت الديلم) أي سكان جبال محافظة جيلان الحالية وعاصمتها مدينة رشت (قد خرجوا إليها وغلبوا عليها. فكتب إليه ابن زياد عهدَه على الري، وأمره بالخروج، فخرج معسكراً بالناس بحَمّام أعيَن) موقع بالكوفة منسوب إلى أعيَن مولى سعد بن أبي وقاص (فلما كان من أمر الحسين ما كان وأقبل إلى الكوفة، دعا ابن زياد عمر بن سعد فقال: سِر إلى الحسين، فإذا فرغنا مما بيننا وبينه، سِرتَ إلى عملك. فقال له عمر بن سعد: إن رأيت رحمك الله أن تعفيني فافعل. فقال له عبيد الله: نعم، على أن تردّ لنا عهدَنا. قال: فلما قال له ذلك قال عمر بن سعد: أمهلني اليوم حتى أنظر. قال: فانصرف عمر يستشير نصحاءه، فلم يكن يستشير أحداً إلا نهاه. قال: وجاء حمزة بن المغيرة بن شعبة وهو ابن أخته) وهي حفصة بنت سعد بن أبي وقاص (فقال: أنشدك الله يا خال أن تسير إلى الحسين فتأثم بربك وتقطع رحمك، فوالله لأن تخرج من دنياك ومالِك وسلطانِ الأرض كلِّها لو كان لك، خيرٌ لك من أن تلقى الله بدم الحسين. فقال له عمر بن سعد: فإنى أفعل إن شاء الله).
ولكنه في نهاية المطاف مدّ عينيه إلى الدنيا، واختارها، قال عنه ابن كثير البداية والنهاية: (وكان عمر بن سعد هذا يحب الإمارة، فلم يزل ذلك دأبه حتى كان هو أمير السرية التي قتلت الحسين بن علي «رضي الله عنه»).
وبلغ به الأمر إلى أخس الأفعال وأشد الجرائم. روى الطبري: (قال جاء من عبيد الله بن زياد كتاب إلى عمر بن سعد: أما بعد، فحُل بين الحسين وأصحابه وبين الماء ولا يذوقوا منه قطرة كما صُنع بالتقى الزكي المظلوم أمير المؤمنين عثمان بن عفان. قال: فبعث عمر بن سعد عمرَو بن الحجاج على خمسمائة فارس، فنزلوا على الشريعة وحالوا بين حسين وأصحابه وبين الماء أن يُسقَوا منه قطرة، وذلك قبل قتل الحسين بثلاث).
قال ابن الأثير في أسد الغابة: (ولما قُتل الحسين، أمر عمر بن سعد نفراً فركبوا خيولَهم وأوطؤوها الحسين). هكذا مدّ ابن سعد عينيه إلى الدنيا، فكان من أخسر الخاسرين.