خطبة الجمعة 16 محرم 1442: الشيخ علي حسن : الخطبة الأولى : التوفيق والتوكل

- الإنسان من الناحية التكوينية مخلوق حر، يمكنه أن يختار لنفسه الفعل أو الترك.
- ولأنه حر تكويناً، فهو حر من الناحية التشريعية أيضاً، أي ليس لأي مخلوق أن يفرض عليه عبادته: (وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ) [آل عمران:64].
- نعم، الإنسان ليس حراً تكويناً بالنظر إلى العلل والأسباب الكونية التي أوجدته، فلم يختر والديه ولا صفاته الوراثية ولا الزمن الذي وُلد فيه... إلخ.
- وليس حراً تشريعاً بالنسبة إلى ما تقتضيه بعض مصالحه الشخصية وكذلك المصالح العامة. فلا يحق له الإضرار بنفسه، ولا يحق له الإضرار بالآخرين، وعليه احترام القوانين المنظمة.
- وحيث أن الله هو الخالق لكل شيء، وهو المالك المطلق لكل شيء، وهو الذي يدير كل الوجود، لذا استوجب من الإنسان العبودية لله، والطاعة التامة له، والإيمان أن الأمور بيده، وأن توفيق الإنسان لتحقيق ما يريد راجع إلى الله، موجد الأسباب، وبيده تفعيلها وتعطيلها.
- ولذا على الإنسان أن يتطلع إلى الله، ويتوكل عليه، ويرجع إليه في أموره كلها، ويطلب منه التوفيق فيما يفعل وفيما يترك... وقد تجلت هذه المفاهيم في الآية 88 من سورة هود، وذلك في بيان جانب من موقف النبي شعيب (ع) مع قومه: (قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي) أي الحقيقة واضحة بالنسبة إليّ، فيما له علاقة بتوحيد الله، وكوني مرسلاً من عنده، وسائر الأمور التي أدعوكم إليها، أو أنهاكم عنها.
(وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا) والمراد من الرزق الحسن هنا النبوة والعلم، فكما أن الله أعطاكم رزقاً مادياً وجعلكم أصحاب ثروات بفضل الموقع الجغرافي المتميز لمدينتكم، كذلك فقد أعطاني رزقاً ولكن من نوع آخر، وهو رزق حسن.
(وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ) فأنا صادق في دعوتي، على مستوى الدوافع، وعلى مستوى التطبيق الشخصي لها، ليست لي غايات خفية، ولا مصالح شخصية من وراء حركتي هذه، لا أطلب الرئاسة عليكم، ولا تحصيل الثروة بنجاحي في هذه الدعوة.
- وقد شهدنا خلال العقود القليلة الماضية بعض من يطلقون على أنفسهم عنوان (المصلحين والدعاة) ممن ينجحون من خلال مهاراتهم وبعض العوامل المساعدة في تحقيق الشهرة الواسعة، ثم ما تلبث أن تبدو عليهم مظاهر الغِنى والرفاهية، أو حيازة عناوين الرئاسة المتعددة، ثم تأتي اللحظة التي تُسقِط عنهم ورقة التوت لتنكشف من خلالها حقيقتُهم الزائفة.
- ويبدو أنه لم يخلُ زمان من مثل هذا النموذج للمصلحين المزيفين، ولذا فإن النبي شعيب (ع) يؤكد لقومه أنه ليس منهم، وينفي التهمة عنهم، وهو ما يجب أن نحذر منه على الدوام، ولا تكون
الشهرة والجاذبية العامل الوحيد في تصديقهم والأخذ عنهم، بل لابد من التأكد من مصداقيتهم، لاسيما وأن سقوطَهم قد يتبعه سقوط قيمة الدين والمصلحين في أعين الناس.
(إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ) مجيء الاستثناء في سياق النفي يفيد الحصر. أي لا غاية لي إلا الإصلاح قدر استطاعتي.
(وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ) بعد أن أثبت النبي شعيب (ع) لنفسه من خلال الكلام السابق الاستطاعة والقدرة، وحيث أنه ليست للعبد باستقلاله استطاعة دون الله سبحانه، لذا فقد أتم النبي شعيب ما في كلامه من النقص والقصور بقوله: (وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ)، أي أن إرادتي وقدرتي من عند االله سبحانه، ولذا فلا غنى عنه، ولا استقلال في أمر دونه.
- ومرة أخرى جاءت العبارة بصيغة الاستثناء في سياق النفي للدلالة على حصر التوفيق بالله.
(عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) ولأن توفيقَه بالله فحسب، لذا فإن النتيجة الطبيعية هي أن يكون توكلُه وإنابتُه إلى الله وحده، وهذا ما يدل عليه تقديم الجار والمجرور على الفعل.
فلنكن دائماً المتوكلين على الله، المنيبين إليه في أمورنا كلها، ولنسأله التوفيق فيما نختار، وفيما نترك، فهو وليّ كل شيء، وهو على كل شيء قدير.