وصايا - الجزء الثاني - مجلس الحسينية الكاظمية 1442 هـ

مما روي من وصايا الإمام الكاظم «عليه السلام» لوُلْدِه: (يا بَنيَّ، إني أوصيكم بوصيّةٍ مَن حَفِظَها لم يَضِع معها؛ إن أتاكم آتٍ فأسمَعَكُم في الأذُنِ اليمنى مكروهاً، ثم تحوّل إلى الأُذُنِ اليُسرى فاعتَذَر وقال: لَم أقُل شيئاً، فاقبَلوا عُذْرَه).
يرسّخ الإمام في أبنائه قيمةً أخلاقيةً عملية، ليكونوا الكاظمين للغيظ كما كان، والعافين عن الناس كما عُرف عنه، حتى بات لقباً له. فلا يكفي أن نُطعم أبناءنا كلما طلبوا الطعام.. ولا يكفي أن نكسوهم، وأن نؤمّن لهم المسكن الملائم، والترفيه في السفر واللعب والتسوّق وما إلى ذلك. فهم أيضاً بحاجة إلى التغذية الروحية، والتوجيه الأخلاقي، كما هم بحاجة إلى التغذية العقلية، ليزدادوا قُرباً من الله، وليزدادوا معرفةً بدينهم، والهدف من وجودهم في الحياة، وليكون سلوكهم سلوكاً إنسانياً راقياً، وليطوّروا من قدراتهم بدلاً من تحطيمها في الألعاب والأجواء التي تعزلهم وتزرع فيهم العقد، ليعرفوا أن الوقت يعني حياتَهم.
وكما قال الإمام الكاظم: (اجتهدوا في أن يكون زمانُكم أربعَ ساعات: ساعة لمناجاة الله، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الأخوان الثّقاة الذين يعرّفونكم عيوبكم ويخلصون لكم في الباطن، وساعة تخلون فيها للذّاتكم في غير محرّم، وبهذه الساعة تقدرون على الثلاث ساعات).
أوصوهم أن يقيّموا أنفسَهم وسلوكهم.. أوصوهم أن يحاسِبوا أنفسهم كما قال الكاظم: (ليس منّا من لم يحاسب نفسه في كلّ يوم، فإنْ عمل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيّئاً استغفر الله منه).
يحاسب نفسه وينظر إلى عيوبه وسلبياته، لا إلى سلبيات وعيوب الآخرين لينتقدها ولينتقص من قيمتهم.
انتقل رجل مع زوجته إلى منزل جديد وفي صبيحة اليوم الأول، وبينما هما يتناولان وجبة الإفطار قالت الزوجة مشيرة مِن خلف زجاج النافذة المطلة على الحديقة المشتركة بينهما وبين جيرانهما: انظر يا عزيزي، إن غسيل جارتنا ليس نظيفاً.. لابد أنها تشتري مسحوقاً رخيصاً. ودأبت الزوجة على إلقاء نفس التعليق في كل مرة ترى جارتها تنشر الغسيل.. وبعد شهر اندهشت الزوجة عندما رأت الغسيل نظيفاً، وقالت لزوجها: انظر.. لقد تعلمَتْ أخيراً كيف تغسل! فأجاب الزوج: عزيزتي.. لقد نهضتُ باكراً هذا الصباح ونظفتُ زجاج النافذة التي تنظرين منها!!
نعود إلى وصية الإمام، هل نملك مثل هذه الروحية للعفو والتسامح؟
تكمن في الإنسان مجموعة من القوى التي أودعها الله سبحانه فيه، فهناك القوة العقلية، ويعبر عنها في بعض كتب الأخلاق عند المسلمين بـ (القوة الناطقة)، ولعلهم أخذوا هذا عن اليونان. هذه القوة من شأنها أن تدرك الحَسن من القبيح، وتُميز الخير من الشر.. ثم تأمر بفعل الحسن منها وترك القبيح.
وهناك القوة الشهوانية (أو الشهوية): وهي القوة التي يطلب بها الإنسان المنفعة لنفسه، من قبيل المأكل والمشرب والجنس وغير ذلك.
وهناك أيضاً القوة الغضبية: وهي التي يدفع بها الإنسان الأخطار والأذى عن نفسه وعن الأشخاص والأشياء التي تعنيه ويهتم لأمرها.
ومن الواضح أن القوة الشهوية لو أُطلق لها العنان، فإنها ستدفع بصاحبها لتلبية رغباته من دون مراعاة لمعايير معينة كالحلال والحرام، وحُسن الفعل وقبحه.
وهكذا فإن القوة الغضبية يمكن توظيفها في الاتجاه الإيجابي دفاعاً عن النفس والمال والعِرض والدين والوطن، كما يمكن أن تكون منفلتة يعتدي من خلالها الإنسان على أقرب الناس إليه في لحظة استجابة لها.
وإذا وُفِّق الإنسان ليكون قادراً على السيطرة على قوته الغضبية فقد وُفِّق لخير عظيم، وقد قال «تعالى»: }وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ{. أي أنه يمتلك حظاً وافراً من الإيمان والوعي والإنسانية النابضة بكل معاني الخير والإحسان.
ونجد في تعاليم الإسلام الشرعية والأخلاقية عدة تدابير تُعين الفرد على ضبط قوته الغضبية، ففي فترة الإحرام مثلاً نجد أن من بين المحرمات: حمل السلاح وإخراج الدم والسب والجدال وقتل هوام الجسد، وكلها تدرّب الإنسان على ضبط قوته الغضبية.
وهكذا نجد أن من الغايات الفرعية للصوم ضبط النفس، حيث قال النبي «صلى الله عليه وآله»: (يا أيّها الناس من حَسَّن منكم في هذا الشهر خُلُقه كان له جواز على الصراط يوم تزل فيه الاَقدام. ومن خفَّفَ في هذا الشهر عما ملكت يمينُه، خفَّف الله عليه حسابه.‏ ومن كفَّ فيه شرَّه كف الله عنه غضبَه يوم يلقاه).
ومن هنا اعتبر النبي أن لا قيمة لصيام الإنسان الذي لم يفلح في ضبط قوته الغضبية. ففي كتاب الحسين بن سعيد عن الإمام جعفر الصادق «عليه السلام» أنه قال: (سمع رسول الله «صلى الله عليه وآله» امرأةً تسابُّ جاريةً لها وهي صائمةٌ، فدعا رسول الله «صلى الله عليه وآله» بطعامٍ فقال لها: كلي. فقالت: أنا صائمةٌ يا رسول الله، فقال: كيف تكونين صائمةً وقد سببت جاريتك؟ إنّ الصوم ليس من الطعام والشراب، وإنما جعل الله ذلك حجاباً عن سواهما من الفواحش. مِن الفعل والقول يفطرُ الصائم. ما أقلّ الصوّام وأكثر الجوّاع).
ويأتي هنا دور الفطرة الأخلاقية والعقل والتقوى والقانون والتربية في ردع الإنسان عن توجيه قوته الغضبية في المحل الممنوع. وهو ما نجده ماثلاً في قصة الأخوين هابيل وقابيل: }وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّـهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّـهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ{.
أي قد تكون المسألة أكبر من مجرد كلام وموقف كما في مسألة المرأة الصائمة، وقد تعامل الإسلام مع ذلك في بُعدين: شرعي قانوني، وأخلاقي: }يا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأنثَى بِالأنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أليم، ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب لعلّكم تتقون{.
• القصاص والعفو:
الإسلام شرّع القصاص في القتل العمد، كما شرّع إمكانية العفو بمقابل مادي، أو بلا مقابل، وقد تحدثت الآيتان عن ذلك، ولكن البعض يطرح التساؤل المتضمن لإشكالية وهي أن المسيحية أرقى في هذا الجانب من الإسلام وأكثر إنسانية.. كيف؟
يقولون: المسيحية لا تعترف بالقصاص كمبدأ، بل إنها شرعت بدلاً منه العفو والتسامح، انطلاقاً من قول السيِّد المسيح «عليه السلام»: (من ضربك على خدك فأعرض له الآخر)، وهي بذلك تكون أرقى في تعاليمها من الإسلام.
والجواب في نقاط:
1. التسامح والعفو في المسيحية لم ينطلق ليكون قاعدة وحيدة في التعامل الاجتماعي مع الجريمة والمجرمين، بل انطلق من أجل أن يخفف الجوّ القانوني المادي الذي سار عليه النّاس في ذلك العصر الذي رافق إرسال السيِّد المسيح. المقاييس الروحية حينئذ لم تكن واردة في حساب العلاقات الخاصة والعامة، كما حدّثنا القرآن في أكثر من حديث عن واقع بني إسرائيل، ومن هنا جاءت هذه الدعوة الروحية للسيد المسيح لمواجهة هذه الروحية المادية.
2. ثم لنلاحظ البيان الذي قدّمه المسيح إلى بني إسرائيل في بداية رسالته: }وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَني إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللّه إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِى اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُواْ هَـذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ{، وهو ما يتوافق مع ما جاء في إنجيل (متّى): (لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ).
فالآية القرآنية تؤكد على أنَّ النصرانية لم تأتِ لتنسخ الخطّ العام الذي ارتكزت عليه شريعة التوراة، بل تحرّكت في اتجاه إقرارها بشكل عام مع بعض الاستثناءات في جانب التحليل والتحريم مما اقتضاه التطوّر الزمني لمواجهة المشاكل المستجدة مما لم يعد التشريع فيه عملياً. وبالتالي لا تختلف المسيحية في هذا عن الإسلام الذي شرّع الحقوق في جميع المجالات الإنسانية للعلاقات العامة والخاصة، ولكنَّه قرن ذلك بالدعوة إلى التسامح والعفو والصبر، معتبراً ذلك خيراً وأقرب للتقوى.
بل إن الإسلام تجاوز مسألة الضرب على الخد إلى مسألة القتل، فالقصاص وإن كان مشرّعاً، إلا أن الله يحب أن يأخذ الناس بالعفو بمقابل مالي أو من دون مقابل مالي متى ما كانت الحكمة والمصلحة تدعو إلى ذلك، والقصاص ليس الخيار الوحيد في الأمر، والحكم الشرعي القانوني ليس الموقف الحصري في التعامل في مثل هذه الحالة، بل تؤكد الآية أنه من يعفُ ويتجاوز، لا يحق له أن يعود في عفوه وإلا عوقب على ذلك.
وقد مرّت بنا آية }وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ{ والتي تتضمن الدعوة إلى مواجهة الإساءة بالإحسان وليس مجرد إدارة الخد، ولكن المشكلة أننا فشلنا في تسويق هذه المفاهيم القرآنية الراقية، وقدّمنا الإسلام وشريعته وكأنهما في حالة شوق وتطلّع للدماء والقصاص وقطع الأيدي وإقامة الحدود.
وكما أن من الخطأ تصوير الإسلام بأنه بعيد عن الحالة الروحية الخلاقية في التعامل مع الإساءة، كذلك من الخطأ القول بأن اليهودية قريبة إلى المادية في التشريع في مقابل اعتبار النصرانية قريبة إلى الروحية في المفهوم، لنخلص من ذلك إلى الحديث عن عظمة الإسلام، لأنه حقّق التوازن التشريعي والمفهومي والعملي بين المادة والروح. فالقرآن عند الحديث الرسالات السابقة يؤكد أنها تسير في خطّ واحد من ملاحظة مصلحة الإنسان، ومصلحته لاشك ترتبط بالجانبين القانوني والروحي.
• تجلّي العفو في يوم عاشوراء:
وفي يوم عاشوراء تجلى الجانب الروحي لدى الحسين «عليه السلام» كأروع ما يكون في موقفه من الحر بن يزيد الرياحي حين أدرك حجم الخطيئة التي ارتكبها بمنعه الحسين من الوصول إلى الكوفة، تاب، فعفا عنه الحسين «عليه السلام» في تجلٍّ للعفو في أعلى مراتبه.
في الإرشاد للشيخ المفيد أنه: (لما رأى الحر بن يزيد أن القوم قد صمموا على قتال الحسين «عليه السلام» قال لعمر بن سعد: أي عمر، أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال: إي والله قتالا أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي، قال: أفما لكم فيما عرضه عليكم رضى؟ قال عمر: أما لو كان الأمر إلي لفعلت، ولكن أميرك قد أبى. فأقبل الحر حتى وقف من الناس موقفا، ومعه رجل من قومه يقال له: قرة بن قيس، فقال: يا قرة هل سقيت فرسك اليوم؟ قال: لا، قال: فما تريد أن تسقيه؟ قال قرة: فظننت والله أنه يريد أن يتنحى فلا يشهد القتال، ويكره أن أراه حين يصنع ذلك، فقلت له: لم أسقه وأنا منطلق فأسقيه، فاعتزل ذلك المكان الذي كان فيه، فوالله لو أنه أطلعني على الذي يريد لخرجت معه إلى الحسين بن علي «عليه السلام»؟ فأخذ يدنو من الحسين قليلا قليلا، فقال له المهاجر بن أوس: ما تريد يا ابن يزيد، أتريد أن تحمل؟ فلم يجبه وأخذه مثل الأفكل - وهي الرعدة - فقال له المهاجر: إن أمرك لمريب، والله ما رأيت منك في موقف قط مثل هذا، ولو قيل لي: من أشجع أهل الكوفة ما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك؟! فقال له الحر: إني والله أخير نفسي بين الجنة والنار، فوالله لا أختار على الجنة شيئا ولو قطعت وحرقت. ثم ضرب فرسه فلحق بالحسين عليه السلام فقال له: جعلت فداك - يا ابن رسول الله - أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان، وما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضته عليهم، ولا يبلغون منك هذه المنزلة، والله لو علمت أنهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت منك الذي ركبت، وإني تائب إلى الله «تعالى» مما صنعت، فترى لي من ذلك توبة؟ فقال له الحسين «عليه السلام»: نعم، يتوب الله عليك فانزل. قال: فأنا لك فارسا خير مني راجلا، أقاتلهم على فرسي ساعة، وإلى النزول ما يصير آخر أمري. فقال له الحسين «عليه السلام»: فاصنع - يرحمك الله - ما بدا لك). وتقدم الحر وأبلى بلاء حسناً بعد أن وعظ الناس وحذّرهم ورغّبهم في نصرة الحسين، فحمل عليه رجال يرمون بالنبل، فأقبل حتى وقف أمام الحسين «عليه السلام». وأبلى بلاء حسناً ثم استشهد «رضوان الله عليه».