ليالي عاشوراء 1442 - الليلة العاشرة - الحسين وفتية عاشوراء - الشيخ علي حسن

المشهد الأول
النورُ يسابقُ رسولَ الله في إطلالته المعهودةِ على أصحابه، وخطاهُ تتسارعُ فرحاً وهو يحمل ريحانتاه... (خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وآله- ومعه الحسن والحسين، هذا على عاتقه وهذا على عاتقه، وهو يلثم هذا مرة، وهذا مرة، حتى انتهى إلينا) هكذا روى بعض أصحابِه وهُم يجِدُون في عينيه سعادةً لا يعرفونها إلا حين يكون وفي معيّته ريحانتاه.
فقال له رجلٌ من أصحابه: (يا رسول الله، إنك لتحبّهما؟)...
يا سبحان الله! أيُّ سؤال هذا؟ وكيف يُعرَّفُ المعرَّف؟! ولكنه – من دون تردّد - سؤالَ المُندهِش مِن تلك المشاعر التي فاحَ عِطرُها ولاحَ سناها في المكان... وقد عرفوا من رسول الله كلَّ الجِدّ، وروح المسئولية التي تطغى على شخصيته، وإن لم تفارقه ابتسامتُه الحانية قطّ وهي تمتزج مع صرامةِ الروح والعزمِ الشديد.
فما سرُّ تلك السعادة في تلك اللحظات التي تجمعُه بسِبطيه، حتى أنهما ليجرؤان أن يصعَدا على ظهره إذا صلّى، ويرتقيان مِنبرَه وهو يَعظُ الناسَ في عَفوية الطفولة... فلا يستفزُّه ذلك، ويُطيلُ سجودَه، ويتهلّلُ وجهُه فَرَحاً لرؤيتهما، ويُثني عليهما، ثم يطلب من الناس أن يشاركاه هذا الحب العميق، الذي لا يقف عند حدِّ المشاعر، بل يمتزج مع روح الدين، وصِدق الإيمان... فحبُّهما من حبِّه، وبغضهما من بُغضه، ولا يُبغضه – صلى الله عليه وآله - إلا منافق أو كافر.
ومن هنا كان جوابه لذلك السؤال الغريب جوابَ الناصحِ المنذِر: (مَن أحبهما فقد أحبَّني، ومن أبغضهما فقد أبغضني).
فالإيمان في وجهٍ منهُ تصديقٌ بالقلب وعملٌ بالجوارح، وهو في وجهه الآخر خَفقةُ قلب، وحركة مشاعر، فلا الروح تستقلّ بالإيمان، ولا العقلُ ينفرد بالتصديق... وما قيمةُ اليقينِ إنْ لم يكن القلبُ دِثارَه، وما قيمةُ الحبِّ إن لم تَعرف الجوارحُ مُشايعةَ المحبوب: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ).
وما كان لأحد أن يدّعي حُبَّ النبيِّ واتّباعَه وهو يُبغض سبطاه وريحانتاه من الدنيا، وهو القائل: (مَن أحبَّهما فقد أحبَّني، ومن أبغضهما فقد أبغضني)، تماماً كما قال ذلك من قبل في أمِّهما: (فَاطِمةُ بَضعةٌ منّي، مَن آذاها فَقَد آذاني، ومن أحَبَّها فقد أحَبَّني)، وفي أبيهما القائل: (والذي فلق الحبة وبرأ النسمة! إنه لعهد النبي الأمي - صلى الله عليه وآله – إليّ، أن لا يحبُّني إلا مؤمن، ولا يُبغِضُني إلا منافق).
وتدور الأيام وتدور، وتتركُ بَصماتِها القاسيةَ على قلب فاطمة وعليٍّ والحسنين! ودّع النبيُّ الدنيا الفانية ليلتحقَ بجوار الله... ولم تمضِ سوى أيامٌ حتى التحقت به ابنتُه، تماماً كما أخبر النبيُّ بذلك بَضعته - مِن قبل - وهو على فراش الموت.
واجتمع الحسنان – وأبوهما - في مشهد مريع ومتكرّر، ليودّعوا بَضعةَ رسولِ الله، بعدَ رسولِ الله، وكلماتُ عليٍّ تُفيضُ حُزناً على حزن، وألماً على ألَم: (السلام عليكَ يا رسول الله عنّي وعن ابنتك النازلةِ في جوارِك، والسريعةِ اللحاق بك. قلَّ يا رسول الله عن صفيَّتِك صَبري، ورقّ عنها تجلُّدي..... إنا لله وإنا إليه راجعون. فلقد استُرجعت الوديعة، وأُخذت الرهينة. أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمُسهَّد، إلى أن يختار الله لي دارَك التي أنت بها مقيم).

المشهد الثاني
ثلاثٌ وخمسون سنة مضَت منذ أن وقف بطلُ الإسلام.. حيدرة.. خلفَ رسول الله في أوّل صلاة جمعته بخديجةَ وهو ثالثهما... حيدرة.. بطلُ الإسلام الذي طالما ارتفع سيفُه في وجه الكفر والباطل.. في سَحَرِ ليلةٍ من ليالي شهرِ رمضان غارقٌ في دمائه في المحراب.. وقد طالته يدُ الغدر الخارجية.
فزتُ وربِّ الكعبة... نداءٌ هزّ أركان الكوفة، وتراقصت له شياطينُ الجنِّ والإنس فرحاً... لقد حقّق لها المرادي ما عجزَ عنهُ مِن قبلُ بنو عبدالدار والعامريّ ومرحبٌ ومَن دونَهم مِن رؤوس الشياطين... شُلّت أيديهم! ما أجرأهم على أبي الحسن!
في تلك اللحظة التي هوى فيها سيف المرادي، كتبت الأقدار بقلم القضاء المُبرمِ المحتوم: ما عاد لأيتامِ الكوفةِ أبٌ يحنو عليهم... وما عاد لمظلوميها أميرٌ يُدافع عنهم... وما عاد لمساكينِ الأرضِ قلبٌ يَخفُقُ تألّماً لآلامهم، وما عاد الناسُ يسمعونَ مِن صاحب القلب الكبير: (هيهات أن يَغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكبادٌ حرى؟ أو أكون كما قال القائل:
وحسبك داء أن تبيت ببطنة * وحولك أكباد تحن إلى القدّ
أأقنع من نفسي بأن يقال أمير المؤمنين ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكونُ أسوةً لهم في جشوبة العيش، فما خُلقت ليشغلني أكل الطيبات كالبهيمة المربوطة همُّها علفُها، أو المرسلة شغلُها تقمّمها، تكترش من أعلافها وتلهو عما يُراد بها، أو أترك سُدىً أو أُهمل عابثاً، أو أجر حبل الضلالة، أو أعتسف طريق المتاهة)!
لقد هوى سيف المرادي بتلك الضربة المشئومة على رأس كلِّ مِسكين، وكلِّ يتيم، وكلِّ مظلوم... ورسَم على جدران بيوتِهم بدمِ فتى الإسلامِ لوحةَ حُزنٍ سرمديّة!
وحانت الساعات الأخيرة للفراق، وقد يمّم فتى الإسلامِ وجهَه إلى القِبلة، وعلى رأسه الحسنان يكفكفان دموعَهما ويُلقيان عليه النظرات الأخيرة، ويستذكران موقفهما من قبلُ مع رسولِ الله وبَضعته الطاهرة، وأصغيا إليه في كلماته الأخيرة: (أوصيكُما بِتَقوَى اللّه، وألّا تَبغِيَا الدُّنيا وإن بَغتَكُما، ولا تَأسَفا عَلى شَيءٍ مِنها زُوِيَ عَنكُما، وقولا بِالحَقِّ، وَاعمَلا لِلأَجرِ، وكونا لِلظّالِمِ خَصماً، ولِلمَظلومِ عَوناً... اللّه َ اللّه َ فِي الأَيتامِ؛ فَلا تُغِبّوا أفواهَهُم، ولا يَضيعوا بِحَضرَتِكُم. وَاللّه اللّهَ في جيرانِكُم؛ فَإِنَّهُم وَصِيَّةُ نَبِيِّكُم، ما زالَ يوصي بِهِم حَتّى ظَنَنّا أنَّهُ سَيُوَرِّثُهُم. وَاللّه َاللّه َفِي القُرآنِ، لا يَسبِقُكُم بِالعَمَلِ بِهِ غَيرُكُم. وَاللّه َاللّه َفِي الصَّلاةِ؛ فَإِنَّها عَمودُ دينِكُم. وَاللّه اللّه في بَيتِ رَبِّكُم، لا تُخَلّوهُ ما بَقيتُم؛ فَإِنَّهُ إن تُرِكَ لَم تُناظَروا. وَاللّه اللّه َفِي الجِهادِ بِأَموالِكُم وأنفُسِكُم وألسِنَتِكُم في سَبيلِ اللّه .... يا بَني عَبدِ المُطَّلِبِ، لا أَلفِيَنَّكُم تَخوضونَ دِماءَ المُسلِمينَ خَوضاً، تَقولونَ: قُتِلَ أميرُ المُؤمِنينَ. ألا لا تَقتُلُنَّ بي إلّا قاتِلي. انظُروا إذا أنَا مُتُّ مِن ضَربَتِهِ هذِهِ، فَاضرِبوهُ ضَربَةً بِضَربَةٍ، ولا تُمَثِّلوا بِالرَّجُلِ؛ فَإِنّي سَمِعتُ رَسولَ اللّه ِصلى الله عليه وآله يَقولُ: إيّاكُم وَالمُثلَةَ، ولَو بِالكَلبِ العَقورِ). إنها الفرصة الأخيرة التي يستطيع فيها الإنسان أن ينتقم فيها لنفسه أشدّ الانتقام، ويُفرغَ ما في قلبه لينصبّ الغضبُ على رأس الشيطان المرادي كعذاب الحميم، ولكنها الاستقامة العلوية في طاعة الله وطاعة رسوله التي تفرض عليه كظم الغيظ والانتصار للعدل.
وهدأت تلك الأنفاس الطاهرة... وخيّم على المكان سكون الموت... واهتزّت أركانُ الكوفةِ بنداء التوحيد حُزناً على فقيدها الشهيد.

المشهد الثالث
عليُّ.. يا فتى الإسلام.. حسينُك.. ريحانةُ حبيبِك.. فتَاك الأبيّ.. يقفُ بين أصحابه.. في ساحة المعركة.. وقد لفَّهم الليلُ بوَحشتِه.. وأضاء قلوبَهم حبُّ فتاك.. حسين.. بَضعةِ حبيبِك المصطفى. وسيدِ شباب أهل الجنة.. وشتّان ما بين موقفِ فتاك في كربلاء.. وموقفِك يوم صفين.. آلاف مؤلّفة من السيوف تتراقص تحت أشعة الشمس.. وحناجرُ أصحابِك السُّراة تُنشِدُ رَجَزَ البطولات.. وتهتِفُ باسمك الذي ترتعدُ له فرائصُ الفتيان.. شتّان بين ذا وذاك..
علي.. يا فتى الإسلام.. ألا ليتَ بِضعَ مئاتٍ من أولئك الرجال.. من هَمْدان.. من مَذحج.. من كِندَه.. بين يدي حسينِك.. ينتصرون لنداءاته.. ويهبّون لنجدة دين جدِّه.. ألا هيهات.. لو تُرك القطا ليلاً لنام.. وأنّى له بمثل أولئك الفتية؟! فقد عزَّ الرجال.. وضنَّ بهم الزمان..
(أما بعد فإني لا أعلم أصحاباً أوفى ولا خيراً من أصحابي، ولا أهلَ بيتٍ أبرّ وأوصل من أهل بيتي، فجزاكم الله عني جميعاً خيراً، ألا وإني أظن يومَنا من هؤلاء الأعداء غداً، ألا وأني قد أذِنت لكم، فانطلِقوا جميعاً في حِل ليس عليكم مني ذِمام. هذا الليل قد غَشِـيَكم فاتخِذوه جَملاً، ثم ليأخذ كلُّ رجلٍ منكم بيدِ رجلٍ من أهل بيتي، ثم تفرقوا في سوادِكم ومدائنِكم حتى يفرّج الله، فإن القوم إنما يطلبوني، ولو قد أصابوني للهوا عن طلب غيري).. جاءت كلماتُ فتى عليٍّ تقرعُ طبولَ الحرب.. وتبتلي في نفوسِ أصحابِه – على قلّتهم - ثباتَ عزمِهم.. وعلوّ همَّتِهم.. وصِدق نيّاتِهم..
وأجال فتى عليٍّ بناظريه يرمق حواريّيه.. رِبّـيّون ما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله.. وما ضعفوا وما استكانوا.. تدورُ ألسنتُهم بذكر الله.. (ربنا اغفر لنا ذنوبَنا وإسرافَنا في أمرنا.. وثبِّت أقدامَنا وانصُرنا على القوم الكافرين)..
رِبّيَون تعاهدوا ألا يُصعِدوا إذا دعاهم داعيَ الله.. واستفزَّهم الشيطانُ بخيلهِ ورَجِلِه.. وأحاط بهم الموجُ مِن فوقِهم ومن أسفلَ منهم.. حين تزوغ أبصارُ الرجال.. وتَبلغُ القلوبُ الحناجر.. وتتزلزل الأقدامُ زلزالاً شديداً..
ربِّيـّون أعطَوه ميثاقاً غليظاً.. وسألهم عن صدقهم.. فصدَقوا.. وما بدّلوا تبديلاً.. إنهم أنصارُ الله.. آمنوا وأسلموا.. وأشهَدوا بذلك ربَّهم.. فهم فتيةٌ آمنوا بربهم وزادهم هدىً وربط على قلوبهم وثبّـتَهم تثبيتاً..
بين أولئك الفتية الأبرار.. شيخٌ جاوز الثمانين قد اختطّ الزمنُ على جبينه ووجنتيه كلماتٍ.. تُنبئ عن كهلٍ كان الجهادُ في سبيل العزّة مَعْـلَمَ طريقِه.. ودمُه المِدادَ الذي كَتب به أربابُ التأريخِ قِصةَ مَجدِ المجاهدين.. كَهلٌ لا تَرى في معالِم كهولته إلا فتوّةً تتفجر شموخاً.. وتتعالى على وهن العمُر.. وتضخُّ الإباء في جوارحِه.
فتوةٌ يلفُّها خشوعُ اليقين.. وتواضعُ الإيمان.. وسكينةُ الروحِ المطمئنةِ التي تترقَّبُ ساعةَ الرجوع إلى ربِّها.. (أنحن نُخلّي عنك، ولمّا نعذر إلى الله في أداء حقك؟! أما والله لا أبرح حتى أكسر في صدورهم رمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمُه بيدي.. ولا أفارقك.. ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة دونك.. حتى أموت معك.. والله لا نخلّيك حتى يعلم الله أنا قد حفظنا عَـيْبةَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيك.. والله لو علمتُ أني اُقتَل ثم أحيا ثم اُقتَل ثم اُحرَق ثم أُذرى.. يُفعَل ذلك بي سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حِمامي دونك.. وكيف لا أفعل وإنما هي قتلة واحدة.. ثم هي الكرامة العظمى التي لا انقضاء لها أبداً؟!)..
يا ملائكةَ الرب اشهَدي أنصارَ حسينٍ إلى الله.. فقد صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. فإنهم فتيةٌ آمنوا بربهم وزادهم هدىً وربط على قلوبهم.. وثبّـتَهم تثبيتاً..
وفي آخر القوم صبيٌّ يتطاول بعنُقٍ أضاء دُجى ليلتِهم التي زاد ظُلمتَها أنفاسُ قومٍ احتوشوا الأبرار.. وأحاطوا بهم يتطلّعون إلى الساعة التي تُبيح لهم سفكَ الدم الحرام.. أنفاسٌ تنفثُها قلوبٌ ران عليها سوءُ ما اكتسبت.. وأنتَنَ ريحَها خُبْثُ نواياها..
صبيٌّ يكاد يتلمّسُ الحُـلُم.. يتطلّعُ ليجدَ لنفسه مكاناً بين أولئك الفتية الذين أحاطوا بعمِّه.. دون أن يقلّ عنهم في حُلومِهم.. (عمّاه!! وما نصيبي أنا من هدايا السماء؟!)..
وانتزع فتى عليٍّ مِن شفتيه ابتسامةً تَفيض رحمةً.. وتَقترنُ بشعور غريب يمتزج فيه الفخرُ بالعطف.. والعزةُ بالخوف.. عِزةٌ عنوانُها شُموخ هذا العلوي.. وخوفٌ على وديعةِ أخيه الحسن الزكيّ.. آهٍ يا أبا محمد.. ليتك حاضرٌ في هذا المشهد.. فتخفِّفَ عني ثِقلَ أمانتِك.. أأمسكُه على هُونٍ.. أم أقدِّمُه فداءً للسماء؟!
انحنَى فتى عليٍّ على ابنِ أخيه القاسم.. (قاسمُ أي مُهجتي.. كيف الموت عندك يا بني؟)..
تمعّن الصبيُّ في عيني عمِّه.. وما فتِئَت حدقتاهُ تتراقصانِ فرحاً.. يا عم، كيف الموت عندي وأنا ابنُ فتى الإسلام؟ أنا ابنُ مَن نادى جبريلُ باسمه هاتفاً: لا فتى إلا علي.. أنا ابنُ مَن فرَّجَ الكُرَبَ عن وجهِ جدي رسولِ الله.. (يا عم.. الموتُ عندي أحلى من العسل)..
يا جنةَ الخُلدِ بُشراك.. تزيّني وتطيّبي.. هذا ابنُ الزكيّ يشتاق للقياكِ.. أيتها الحور بُشراكِ.. تهيئي وأعدّي واستعدّي.. فمعشوقكِ ـ القاسم ـ آتٍ للقياكِ.
وبين ذلك الشيخ وهذا الفتى.. فتيةٌ آمنوا بربهم وزادهم هدىً وربط على قلوبهم.. وثبّـتَهم تثبيتاً..
وعاد فتى علي يَستقرئ غدَه.. بل غدَ أولئك الأشقياء الذين يريدُ لهم آخرتَهم.. ويريدون له دنياهم.. وشتّان بين ذا وذا.. فشِبلُ عليٍّ ربيبُ محمد.. فتى قريش الذي صدح بالحق هاتفاً (والله يا عم.. لو وضعوا الشمسَ في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته، حتى يُظهره الله أو أهلك دونه).. وكأنّ الزمان يدور فيستقرّ بين يدي سبطه ليَعرضَ له الأمرَ من جديد.. دنيا قريش.. أم جنةُ الرب؟! معادلةٌ ولا أيسر منها.. سقط في شَرَكِها رجالٌ ورجال.. أمّا سليل النبوة فلا ينسى تمتمات أبيه حيدرة (يا دنيا غُرّي غيري.. أبي تعرّضتِ أم إليَّ اشتقتِ؟! هيهات قد باينتُك ثلاثاً لا رجعة لي فيكِ).
وأغمض فتى عليٍّ عينيه.. وهوى إلى الأرض ساجداً.. وأفاض من سكونه على ليلتِه سكوناً.. سكونٌ خشعت له النجوم.. وسبّحَت معه الملائكة.. وخضعَت له الأرض.. فلا تكاد تسمع إلا همساً.. وحملت الريح كلمات الرب تتلوها حناجر الصحب الأوفياء.. (إنهم فتيةٌ آمنوا بربهم وزادهم هدىً وربط على قلوبهم).. وثبّـتَهم تثبيتاً.
(اللهم أنت ثقتي في كل كرب. وأنت رجائي في كل شدّة.. وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعُدّة).. تراتيل تَصعَّدُ مِن شفتي فتى علي.. وهو يتقدّم حتى وقف بأزاء جند الشيطان.. فجعل ينظر إلى صفوفهم كأنهم السيل.. (تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً.. أحين استصرختمونا ولهين، فأصرخناكم موجفين، شحذتم علينا سيفاً كان في أيماننا، وحششتم علينا ناراً اقتدحناها على عدوكم وعدوّنا؟! فأصبحتم إلباً على أوليائكم ويداً عليهم لأعدائكم بغير عدل رأيتموه بثّوه فيكم، ولا أمل أصبح لكم فيهم، ومن غير حدث كان منّا، ولا رأي يفيل فينا.. فهلا ـ لكم الويلات ـ إذ كرهتمونا تركتمونا والسيف مُشيّم والجأش طامن والرأي لم يستخف؟... ألا وإن البغي ابن البغي قد ركز بين اثنتين، بين السِّـلَّة والذِّلة، وهيهات منا الذلة، أبى الله ذلك ورسوله والمؤمنون وحُجورٌ طابت، وبطونٌ طَهُرت، وأنوفٌ حميّة، ونفوسٌ أبـيّة، أن نؤثر مصارع الكرام على ظآر اللئام.. ألا وإني زاحفٌ بهذه الأسرة على قلة العدد وكثرة العدو وخذلة الناصر).
وجاء الجواب.. سهامٌ كأنها المطر.. تُمزّق أحشاءَ السماء.. وتخرِقُ صدورَ الأبرار.. الذين ما وهَنوا وما ضَعُفوا.. بل وتّدوا في الأرض أقدامَهم.. وأعاروا الله جَماجمَهم.. ونظروا إلى آخر القوم.. صلابةً وإقداماً..
وتعالى نداءُ البِراز بين الصفوف.. واصطكّت الأسماع من صريرِ كلام السيوف.. وتطايرت الأيدي والأعناق.. وتهاوى جُندِ الشيطان إلى جحيم الأبدِ صرعى.. وتصاعدت أرواحُ فتية عاشوراء الواحدَ تلو الآخر.. حتى لم يبقَ مع فتى عليٍّ أحد..
تقدّم سيّدُ فتيةِ عاشوراء.. فاهتزّت الأرض من وقع خطاه.. وامتلأت النفوس هولاً من كلماته..
أنا الحسينُ ابنُ علي آليت أن لا أنثني
أحمي عيالات أبي أمضي على دين النبي
وحمل فتى علي كالليث.. وجُندُ الشيطان تنكشف بين يديه انكشاف المعزى إذا شُدَّ عليها.. وتنهزم فلولُهُم بين يديه كأنها الجراد المنتشر.. حتى أوقعَ فيهم ما لا يُحتمَل.. (الويلُ لكم.. أتدرون لمن تُقاتلون؟! هذا ابنُ الأنزع البطين.. هذا ابنُ قتّال العرب.. فاحملوا عليه من كل جانب)..
وبينا فتى عليٍّ يقاتل الأشقياء.. إذ شقَّ سهمُ الخيانةِ جبهته.. فلم يُبالِ.. بل حَمل عليهم كالليث المُغضَب.. يُلحقهم بأسلافهم.. ويسقي الأرض بدمائهم النجسة..
(يا أمّةَ السوء.. بئسما خلّفتم محمداً في عترته).. وهوى على رأسه حجر.. فجّر ينبوع الطُّهر من جبهته.. فأخذ الثوب ليمسحَ الدمَ عن وجهه.. فأتاه سهمٌ تثلّـثَت شُعَبـُه.. وشقّ طريقَه نحو صدرِه.. حتى استقر.. عميقاً.. حيث قلبِ فتى علي..
تكاثفت غشاوة الدم على عيني سيدِ الفتيان.. وتباطأت خفقاتُ قلبه الزكيّ.. وسَرَت برودةٌ في أطرافه.. واشتعل العطشُ في فمه.. وخارت قواه.. واحتضنَ الصعيدُ جسدَه.. فملأ المكان من عبق الجنة.. وأجال فتى علي بناظريه حوله.. يرمقُ أصحابَه على الثرى.. وأغمض عينيه وصدى كلماتِ الرب تتهادى إليه.. (إنهم فتيةٌ آمنوا بربهم وزادهم هدى وربط على قلوبهم).. إنا لله وإنا إليه راجعون ... السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين جميعاً ورحمة الله وبركاته.