ليالي عاشوراء 1442 - الليلة التاسعة - العزة - الشيخ علي حسن

الوضع الطبيعي والعقلائي للإنسان أن يشعر بالعزة من جهة، وأن يسعى للحفاظ على كرامته من جهة أخرى. وقد ذكر علماء النفس أن إحساس المرء بعزّة نفسه، أي أن يشعر بأنّه عزيزاً محترماً في ذاته وعند غيره من موجبات سعادته، وفي المقابل، فإنّ شعوره بالذلّة والهوان وحقارة نفسه، يجلب له الشعور بالتعاسة والشقاء.
العزة والكرامة هبة الله الخالق «عز وجل»، وهو القائل: }وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً{، وليس من حق الفرد أن يتنازل عن هذه الهبة الإلهية. ومن هنا نجد أن المجتمعات البشرية تحتقر وتستغرب سلوك مَن يهين نفسه، ويتصرّف بصورة تدل على الضِّعة والاحتقار للذات، إلا إذا كان مثل هذا التصرف ناشئاً عن سبب وجيه. مثال ذلك مَن يدخل السلك العسكري وهو يعلم أنه سيتعرّض لمواقف أثناء التدريب تجعله يتنازل عن شئ من كرامته وعزة نفسه، ففي مثل هذه الحالة لا يكون مُلاماً ومحتقَراً من قبل المجتمع.
وفي القرآن الكريم توجيه صريح إلى أن العزة إنما تكون ممدوحة إذا كانت في مكانها المناسب، فمن جهة يقول «عز وجل»: }وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ{، ومن جهة أخرى يقول «عز وجل»: }وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا{.
ولنلاحظ كيف يصف الإمام زين العابدين «عليه السلام» هذه الحالة في دعائه لوالديه: (اللهم اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف وأبرّهما برّ الأُمِّ الرؤوفِ.... اللهم خفض لهما صوتي، وأطـب لهمـا كلامي، وألن لهما عريكتي وأعطف عليهما قلـبي، وصيّرني بهما رفيقاً، وعليهما شفيقاً....).
إذا أردنا أن نقيّم هذه الحالة من منظور فردي شخصي، فهي ليست سوى تنازل عن الشعور بالعِزّة، وليست في صورتها الظاهرية إلا تنازل عن الكرامة الشخصية.. ولكنها في عمق الصورة، وبنظرة شمولية بعيدة عن النظرة الفردية الضيقة، ليست إلا رِفعة وعزة وكرامة حقيقية. والسبب أن هذا التنازل هنا:
1. يتم عن إرادة وقناعة، وليس تحت الضغط.
2. مرتبط بقيمة أخلاقية أعلى وهي بر الوالدين.
3. يحقق نتائج مهمة على صعيد الأسرة، حيث يحقق لها عزتها وقوتها وتلاحمها وتراحمها وكرامتها، ويحقق للمجتمع ككل -من خلال قوة الأسر باعتبارها الوحدات الاجتماعية الصغيرة المؤلفة للمجتمع- العزة والقوة والتلاحم والتراحم والكرامة.
من هنا نفهم أيضاً مغزى قول النبي «صلى الله عليه وآله»: (عليكم بالعفو، فإن العفو لا يزيدُ العبدَ إلا عِزاً، فتعافوا يُعزِّكم الله)، وفي رواية أخرى: (من عفا عن مَظلَمةٍ، أبدَلَه الله بها عِزاً في الدنيا والآخرة).
• الإمام الصادق وابن الحسن:
وفي الكافي بالسند عن صفوان الجمال رواية عن خصومة ومشادة كلامية وقعت بين الإمام جعفر الصادق «عليه السلام» وبين عبدالله بن الحسن المثنى ابن الحسن المجتبي، والمسألة بحسب الظاهر ترتبط بجعل ابنه محمد بن عبدالله المعروف بذي النفس الزكية قائداً للثورة على الأمويين والخليفة المرتقب بعد سقوط الدولة الأموية. فقد التقى الجناح الحسني من آل علي «عليه السلام» مع أحفاد عبدالله بن عباس من أجل التنسيق والإطاحة بحكم الأمويين، وكان الشعار المرفوع من قبلهم هو «الرضا من آل محمد»، وكان الناس يميلون إلى آل علي وتنصرف أذهانهم إليهم عند النداء بمثل هذا الشعار، وإليها كانت تنصب توقعاتهم وتطلعاتهم لمن سيكون البديل الأنسب للخلافة بعد سقوط الأمويين، لما عرفوه عنهم من تقى وخصال حميدة وتضحيات ووصايا نبوية وغير ذلك. وعند عقد الاجتماع تم الاتفاق على جعل القيادة لمحمد بن عبدالله، والترويج على أنه هو المهدي الذي بشّر النبي «صلى الله عليه وآله» بظهوره، ولم يكن محمد ذو النفس الزكية شخصية عادية، وقد ذكر الأصفهاني في «مقاتل الطالبيين» أنه كان: (من أفضل أهل بيته، وأكبر أهل زمانه في زمانه في علمه بكتاب الله وحفظه له وفقهه في الدين وشجاعته وجوده وبأسه وكل أمر يجمل بمثله، حتى لم يشك أحد أنه المهدي، وشاع ذلك له في العامة، وبايعه رجال من بني هاشم جميعاً من آل أبي طالب، وآل العباس، وساير بني هاشم..... وخرجت دعاة بني هاشم إلى النواحي عند مقتل الوليد بن يزيد، واختلاف كلمة بني مروان، فكان أول ما يظهرونه فضل علي بن أبي طالب وولده وما لحقهم من القتل والخوف والتشريد).
هكذا كان الأمر، وقد تم الطلب من الإمام جعفر الصادق «عليه السلام» باعتباره أكبر وأبرز شخصية في الجناح الآخر من آل علي أن يبايع ويدخل في ضمن الاتفاق السابق، ولكنه لم يوافق. روى القندوزي الحنفي في كتابه «ينابيع المودة»: (فلما كان في أواخر دولة بني مروان وضعفهم، أراد بنو هاشم أن يبايعوا منهم من يقوم بالامر، فأنفقوا على محمد وإبراهيم ابني عبد الله المحض، فلما اجتمعوا لذلك أرسلوا إلى جعفر الصادق. فقال عبد الله: إنه يُفسد أمركم. فلما دخل جعفر الصادق سألهم عن سبب اجتماعهم فأخبروه. فقال لعبد الله: يا ابن عمي إني لا أكتم خيرية أحد من هذه الأمة إن استشارني، فكيف لا أدل على صلاحكم؟ فقال عبد الله: فمد يدك لنبايعك. قال جعفر: والله إنها ليست لي ولا لابنيك، وإنها لصاحب القباء الأصفر، والله ليلعبن بها صبيانهم وغلمانهم. ثم نهض وخرج، وكان المنصور العباسي يومئذ حاضراً وعليه قباء أصفر، فكان كما قال). أي هكذا حصل فعلاً حيث انقلب العباسيون على الحسنيين، واستلموا الحكم وقتّلوهم.
وهذا ما عناه الأصفهاني في روايته السابقة ولم يصرّح به حيث قال: (ثم ظهر من جعفر بن محمد قولٌ في أنه لا يملك، وأن المُلك يكون في بني العباس) واعتبر الأصفهاني أن العباسيين لم يكونوا يفكرون في المُلك وخيانة الاتفاق، ولكنهم لما سمعوا كلام الإمام الصادق تغيّرت نواياهم: (فانتبهوا من ذلك لأمر لم يكونوا يطمعون فيه).
عدم دخول الإمام الصادق «عليه السلام» في الاتفاق، ورفضه البيعة، أثار غضب عبدالله بن الحسن، وأدى ذلك لاحقاً إلى وقوع تلك المشادة الكلامية التي كنا نتحدث عنها، والتي يقول فيها الراوي: (حتى وقعت الضوضاء بينهم واجتمع الناس. فافترقا عشيتهما بذلك، وغدوت في حاجة فإذا أنا بأبي عبدالله «عليه السلام» على باب عبدالله بن الحسن وهو يقول: يا جارية، قولي لأبي محمد. قال: فخرج، فقال: يا أبا عبدالله، ما بكَّر بِك؟ قال: إني تلوت آية في كتاب الله «عز وجل» البارحة فأقلقتني. فقال: وما هي؟ قال: قول الله «عز وجل ذِكرُه»: }وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ{. فقال: صدقت، لكأنّي لم أقرأ هذه الآية من كتاب الله قط، فاعتنقا وبكيا). فالإمام الصادق «عليه السلام» لم يكن هو المخطيء في موقفه أو كلامه أو أسلوبه، ومع هذا وجد أن صلة الرحم، وإصلاح ذات البين، تستوجبان منه مثل هذه المبادرة، وهي من أسباب تحقيق العزة والكرامة للكيان الأسري والمجتمعي، فلم يتأخر عن ذلك، وإن كان في سلوكه هذا قد قدّم تنازلاً، ولكنه في الواقع حقق مكاسب كبيرة.
فإلى أي مدى نحن جعفريون، ومن شيعة جعفر الصادق عندما نوضع في مثل هذا الموقف؟ لا يكفي لكي أكون جعفرياً أن ألتزم بفقه جعفر «عليه السلام»، في الطهارة والصلاة والنكاح والطلاق.. بل أن يكون سلوكي العام أيضاً متناغماً مع سلوك الإمام جعفر الصادق، هذا هو المعنى الحقيقي للانتماء والولاء والمشايعة.
• التواضع والعزة:
وعليه فإن التنازل عن العزة في الموضع الصحيح في مثل أن يبادر الإنسان إلى طلب العفو من أخيه المؤمن، وإصلاح ذات البين، وإن لم يكن هو المخطيء أمر محبوب عند الله، ومن أسباب ارتفاع قيمة الإنسان عند ربه، وأن يرفعه الله «عز وجل» بين الناس من حيث لا يدري.
والتواضع في حد ذاته تنازل عن شيء من عزة النفس، فقد تملك من المكانة الاجتماعية أو العلم أو السن أو المال ما يميّزك ويرفعك على الطرف الآخر، ولكن مع هذا تخدمه إذا زارك أو طلب منك شيئاً، وتتودد إليه، وتتكلم معه دون أن تُشعره بأنه أعلى منه مستوىً، بل لربما تشعره بعكس ذلك، كلها من صور التواضع.
روى المجلسي أنه: (دخل ضرار بن ضمرة على معاوية فقال له: صف لي علياً. فقال له: أو تعفيني من ذلك، فقال: لا أعفيك، فقال: كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه، وتنطف الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل ووحشته. كان والله غزير العبرة، طويل الفكرة، يقلب كفه، ويخاطب نفسه، ويناجي ربه، يعجبه من اللباس ما خشن، ومن الطعام ما جشب).
شخصية بمثل هذا الوصف وهذه الامتيازات قد يترفّع ويرى نفسه أعلى من الآخرين، إما لما يملكه من علم أو حكمة أو زهد أو كثرة عبادة، ولكن لاحظ ما قاله ضرار بعد ذلك: (كان والله فينا كأحدنا، يدنينا إذا أتيناه، ويجيبنا إذا سألناه، وكنا مع دنوه منا وقربنا منه لا نكلمه لهيبته، ولا نرفع أعيننا إليه لعظمته). أي أنه في عين ما كان يملكه من امتيازات لم يترفّع بها على أحد، بل كان فيهم كأحدهم، وهو تعبير مختصر ورائع جداً.
من هنا امتدح الله «عز وجل» المؤمنين كالتالي: }يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ{.
عندما تعيش هذه الحالة فإنّ }ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ{.. أي نعمة عظيمة مِن الله، وقد وفِّقت لها، وهي لا تتحقق لكل أحد.. بل تتحقق لمن يحبهم الله ويحبونه.
• التنازل القبيح:
والإنسان لا يتنازل عن عزته وكرامته أمام الناس فقط، فقد يتنازل عنها في مقابل شهوة أو ولذّة عابرة أو مال أو منصب. وقد سُئل عليّ «عليه السلام» يوماً: (أيّ ذلّ أذلّ؟ فقال: الحرص على الدّنيا).
فمن يحرص على الدّنيا ويقبِل عليها إقبال جائع جشع نهم طمّاع، وكلّ همّه اكتناز المال، أو إشباع شهوته بصورة أو بأخرى، أو الحصول على منصب بأي ثمن، يكون ذليلاً لها، بمعنى أنه يكون مستعداً -في بعض المواقف- لأن يفعل أي شيء مهما كان قبيحاً أو محرماً أو لا يتناسب مع شخصيته أو ممنوعاً قانوناً أو بالنفاق والتزلف والكذب، كل ذلك من أجل أن يحصل على مراده. الصورة بشعة ومقززة ولكنها مشهودة على طول الخط، وفي كل المستويات.
الشباب عندما يتعاطون المخدرات ويتحولون إلى مندمنين يصبحون عبيداً أذلاء لهذه السموم، ويكونون على استعداد لفعل أي شيء قد يصل إلى حد قتل أقرب المقربين إليهم أو بيع أنفسهم لتلبية شهوات الآخرين وبأحط صورة في مقابل الحصول على جرعة مخدر.
الشباب عندما يتقافزون أمام فتاتة جميلة وكلٌّ منهم يحاول أن يُظهر عضلاته، أو مهاراته الفنية أو الرياضية، أو جمال خصلات شعره المصبوغ، أو ثرائه، هذا نوع من العبودية للشهوة وإذلال للنفس وإسقاط لها أمام غريزة زائلة... نفس هذا الشاب بعد أن يناله حظوته ويطفيء غريزته بالقدر الكافي من هذه الفتاة يغير رقم موبايله ويتهرب منها، ولربما يحوّلها إلى أحد أصحابه... هذه قمة المهانة للنفس البشرية.
بعض المرشحين للانتخابات لنيل كرسي التمثيل في مجلس من المجالس العامة، يبيعون كراماتهم ويتنازلون عن عزة النفس، ويكونون على استعداد لفعل أي شيء، تقديم رشى... نيل رضا المافيات... التزلف الكاذب للناخبين... إطلاق الوعود المخادعة... بيع المواقف لأصحاب المال والسلطة... إلخ القائمة... المهم عندهم الفوز بهذا الكرسي. هذه قمة المهانة للنفس البشرية. ولائحة الأذلاّء تطول؛ وأما مصير من يطلب الكرامة والعزّة عند غير الله «عز وجل» فكالتالي: }وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا{. وفي الدّعاء: (فكم يا إلهي من أناسٍ طلبوا العزَّة بغيرك فذلّوا).
• العزة بين الزوجين:
وقد يعيش المؤمنون -من الجنسين- مثل هذه القيم الأخلاقية السلوكية الإيجابية مع أصدقائهم وأقربائهم أحياناً، ولكنهم ينسون أو يغفلون أو يتغافلون عنها عندما يتعلّق الأمر بشريك الحياة.. الزوج تجاه زوجته، والزوجة تجاه زوجها. وهذا ملاحظ، وهو أمر غريب، لأن من المفترض أن تكون العلاقة الزوجية عاملاً وعنواناً إضافياً لمزيد من الحرص على إعمال مثل هذه القيم. فإذا كان المؤمن أخاً في الله، فعامَلْته وفق ذلك المعيار من العفو والتسامح والمبادرة بالاعتذار، وتعاليت على كبريائك، وتغافلت عن عزة نفسك وكرامتها، انسجاماً مع التعاليم الإسلامية في ما له علاقة بحقوق الأخوّة، ورغبةً في استمرار العلاقة بينكما، فإنّ ما يجمع الزوج بزوجته، والزوجة بزوجها أكثر من ذلك، لأن عنوان الزوجية لم يلغ حقوق الأخوة بالله فيما بينهما.
وما جاء -مثلاً- في سورة الحجرات من الآية العاشرة إلى الثانية عشرة من تعاليم تُنظّم العلاقة الأخوية الإيمانية بالإصلاح، وعدم السخرية، وعدم اللمز والتنابز بالألقاب، واجتناب الكثير من الظن، وعدم التجسس، وعدم الاغتياب، ورعاية تقوى الله في العلاقة، كل هذه العناوين تبقى قائمة بين الزوجين.. بل هي أَوْلى فيما بينهما مما لو كانت مع أخيك أو أختك في الله.
العلاقة الزوجية كغيرها من العلاقات الإنسانية، معرّضة لوقوع المشاحنات والمشاجرات، وقد تتأزم الأوضاع بين الزوجين، وقد تصل إلى مرحلة حرجة.. وتأتي مسألة الكرامة والعزة كواحدة من عوائق المبادرة للمصالحة وتجاوز الخلافات.
فالمرأة تشعر بأن إقدامها على هذه الخطوة فيه انتقاص من كرامتها، وتجاوز على أنوثتها، لأن من المفترض أن تكون المبادرة بالاهتمام والدلال صادرة عن الرجل. وفي المقابل، فإن الرجل يشعر بأن ذكوريته وقوامته على الأسرة وشخصيته لا تسمح له بالتذلل للفرد الأضعف في التركيبة الأسرية، خاصة وأن كلمته يجب أن تكون هي المسموعة، وعلى الزوجة أن تطيعه، لا أن تناقشه وتخالف أوامره.
ولكن المصلحة العليا -وهي المحافظة على الأسرة والحالة الزوجية والميثاق الغليظ- تفرض عدم الاعتناء بكل هذا، وتجاوز العزة الكاذبة، والكبرياء في غير محله.. فرب العزة الذي نظّم العلاقات الإنسانية يريد من الطرفين أن يضعا كل شئ في موضعه.. هذه هي الحكمة.
الحكمة في أن يبادر أحدهما بتجاوز المشكلة.. بالاعتذار بطريقةٍ ما.. أن يكون شجاعاً بما فيه الكفاية لطرح الحلول الناجعة، وعلى الآخر أن يقبل ذلك الاعتذار ويقدّر له هذه المبادرة. طبعاً أنا لا أدعو إلى أن يتحمل طرف واحد مسئولية الاعتذار والتنازل على طول الخط، وإن كان الآخر مخطئاً، بل أن تكون المبادرة منطلقة من الإحساس بالمسئولية والمودة والرحمة.
المكابرة في الخلافات الزوجية، والإصرار على استمرارها، بذريعة الحفاظ على عزة النفس، والكرامة الشخصية، لن تصنع إلا بيتاً تعيساً، وبيئة مشحونة بالصراعات، وأسرة مفككة، وخلافات مستمرة، وقد أخبر الله عز وجل عن شأن بعض الطغاة: }وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْأِثْمِ{، أي أن عزته الكاذبة الناشئة عن روحية الطغيان حملته على المكابرة على الاعتراف بارتكاب الإثم المنهي عنه، وأغرَته بالاستمرار على ارتكابه، وإن كان في قرارة نفسه يدرك الحقيقة، وأن الخير في الاعتراف وتصحيح الموقف.
ومن الممكن أن يتحوّل الزوج إلى طاغوت في بيته، وأن تصبح الزوجة طاغوتاً في إطار الأسرة، ومفتاح ذلك أن تأخذهما العزة الكاذبة والتشدّق بالكرامة نحو تدمير رابط الزوجية من خلال الإصرار على الموقف، والمكابرة على الخطأ، والتعالي على التسامح، من دون مبرر حقيقي يستدعي ذلك، ولنستذكر من جديد قول النبي «صلى الله عليه وآله»: (عليكم بالعفو، فإن العفو لا يزيدُ العبدَ إلا عِزاً، فتعافوا يُعزِّكم الله).
• من أسباب الذل:
وأحياناً تكون الحالة النفسية غير المتزنة سبباً لإذلال الإنسان، وقد روي عن أمير المؤمنين «عليه السلام» أنه قال: (النَّاس من خوف الذلّ في ذلّ)، أي يذل نفسه للآخرين خوفاً من أن يذلّوه، فيستجيب لأوامرهم بصورة عمياء، ويسكت على حقه الذي اغتصبوه، ويتحوّل إلى خادمٍ لهم، والواقع أنه هو الذي هوّل صورتهم وضخّمها، ولو أنه تشجّع وامتلك الجرأة في الكلمة والموقف لربما قضى على هذه الحالة النفسية المهينة له.
الخوف من المهانة يجعلك تقدّم التّنازل تلو التّنازل. أمّا إذا ذهبنا في الاتجاه الآخر، وفتّشنا في قاموس النّاجحين، والمجاهدين، والكادحين، والسّاعين في دروب الحياة، حتّى من أجل لقمة خبز، فلن تجد بينهم من كان ذليلاً، لن تجد بينهم إلا من كان مرفوع الهامة والرّأس.
• العزة في طريق نصرة الحسين:
إنّ الذّلّ يُطفِئ الهمَّة، والإرادة، والعزَّة، والطّموح، والإحساس بالكرامة والمسؤوليَّة، تماماً كما يُطفئ الماءُ النّارَ ويُخمدها. وإنّ أسوأ حالات الانهيار النفسيّ، هي تلك الّتي لا يشعر فيها الإنسان بكرامته، وبقيمته كإنسان يستحقّ أن يحظى بالعيش الكريم. وهي الحقيقة التي آمن بها أهلُ بيت الحسين «عليه السلام» وأنصارُه الذين ثبتوا معه طوال الطريق، وأبوا إلا أن ينصروه في ساعة المواجهة.. الحقيقة التي رآها علي الأكبر بعين البصيرة، وأطلقها بعبارات جلية في حواره مع أبيه وهم يقطعون الصحراء في طريقهم نحو المصير المحتوم. ففي تاريخ الطبري عن عُقبة بن سمعان قال: (لما كان في آخر الليل أمر الحسين بالاستقاء من الماء ثم أمَرَنا بالرحيل ففعلنا. قال فلما ارتحلنا من قصر بني مقاتل وسرنا ساعة خفق الحسين برأسه خفقة ثم انتبه وهو يقول: إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين. قال: ففعل ذلك مرتين أو ثلاثاً قال: فأقبل إليه ابنه علي بن الحسين على فرس له فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون والحمد لله رب العالمين، يا أبت، جُعلت فداك، مِمَّ حمدتَ الله واسترجعت؟ قال: يا بني، إنّي خفَقْتُ برأسي خَفْقة، فعنَّ لي فارس على فرس فقال: القوم يسيرون والمنايا تسري إليهم. فعلمت أنها أنفسنا نُعِيَت إلينا. قال له: يا أبتِ لا أراك الله سوءً. ألسنا على الحق؟ قال: بلى والذي إليه مرجع العباد. قال: يا أبت، إذاً لا نبالي، نموت محقّين. فقال له: جزاك الله من ولد خيرَ ما جزى ولداً عن والده).
وهي الحقيقة التي تجلّت في موقف علي الأكبر يوم الطف، فكان أول شهيد من أهل بيت النبوة في ذلك اليوم، روى الطبري عن زهير بن عبد الرحمن بن زهير الخثعمي قال: (كان آخر من بقى مع الحسين من أصحابه سويد بن عمرو بن أبي المطاع الخثعمي. قال: وكان أول قتيل من بني أبي طالب يومئذ على الأكبر ابن الحسين بن علي، وأمه ليلى ابنة أبي مرة بن عروة بن مسعود الثقفي، وذلك أنه أخذ يشدّ على الناس وهو يقول:
أنا علي بن حسين بن علي نحن ورب البيت أولى بالنبي
تالله لا يحكم فينا ابن الدعي
قال ففعل ذلك مراراً، فبصر به مرة بن منقذ بن النعمان العبدي ثم الليثي فقال: عليّ أثام العرب إن مرّ بي يفعل مثل ما كان يفعل إن لم أُثكله أباه. فمرّ يشدّ على الناس بسيفه، فاعترضه مرة بن منقذ فطعنه فصُرع، واحتوله الناس فقطعوه بأسيافهم).
ثم روى الطبري عن حُميد بن مسلم الأزدي قال: (سَماعُ أذني يومئذ من الحسين يقول: قَتل الله قوماً قتلوك يا بنى، ما أجرأهم على الرحمن وعلى انتهاك حُرمة الرسول! على الدنيا بعدك العفاء).
ويبدو أنه كان لهذا الحدث وقعٌ عظيم على العقيلة زينب التي خرجت مسرعة -بحسب وصف حُميد- وهي تنادي: (يا أخياه ويا ابن أخاه. قال: فسألت عليها: فقيل هذه زينب ابنة فاطمة ابنة رسول الله «صلى الله عليه وآله». فجاءت حتى أكبت عليه، فجاءها الحسين فأخذ بيدها فردّها إلى الفسطاط وأقبل الحسين إلى ابنه، وأقبل فتيانُه إليه، فقال: احملوا أخاكم. فحملوه مِن مصرعه حتى وضعوه بين يدي الفسطاط الذي كانوا يقاتلون أمامه).