حديث الجمعة 3 ذوالحجة1441 هـ : الخصومة في الدين - الشيخ علي حسن

ـ (عن علي بن يقطين قال: قال أبو الحسن(ع): مُرْ أصحابَك أن يكفُّوا مِن ألسنتهم، ويدَعوا الخصومةَ في الدِّين، ويجتهدوا في عبادة الله عز وجل).
ـ الخصومة: تعني الجدل والنزاع الكلامي.. وهو سلوك بشري طبيعي ومتوقع في ظل تعارض المصالح بين الناس، وتباين آرائهم، وحب الذات، والرغبة في الانتصار لها، وغير ذلك.
(خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ) [النحل:4] والخصيم من صيغ المبالغة، أي كثير الخصام. أي هذا هو أصل الإنسان في خِلقته، نطفة صغيرة الحجم، ضعيفة القدرة، لا تملك قدرة على البيان، فإذا بهذه النطفة تتحول إلى إنسان متكلم مُفصح عما في ضميره ومُراده بالحقّ أو بالباطل، والمنطق بأنواع الحجّة حتى السفسطة.

ـ ومع كون الخصومة سلوك طبيعي لدى الناس، ولكنه عندما يتحول إلى سلوك متكرر، أو يتحول إلى عنف جسدي مثلاً، أو عندما يتعلق بخصوصية معينة فإنه يغدو سلوكاً منهياً عنه بشدة. ولذا روي: (إنَّ أبغض الرجال إلى الله الألدُّ الخَصِم) أي شديد الخصومة.
ـ ومن الموارد التي ورد فيها النهي الشديد والمتكرر فيما له علاقة بالخصومة، هو الخصومة في الدين، كما جاء في حديث ابن يقطين عن الإمام الكاظم(ع) والصادر بصيغة الأمر مع التعميم: (مُرْ أصحابَك).
ـ فما خصوصية الخصومة في الدين ـ في الداخل المذهبي أو في ما بين المذاهب ـ ليُنهى عنه بهذه الصورة؟
1ـ الدين في جانبه الفكري والإيماني والتشريعي والأخلاقي والسلوكي يهدف ـ فيما يهدف إليه ـ لتوحيد الصف وتحقيق القوة والتماسك المجتمعي.. وغير خافٍ أن النزاع الكلامي في حد ذاته من أسباب احتقان المشاعر السلبية في النفوس، والذي يؤدي بالتالي إلى إضعاف العلاقات البينية.. وهذا يُعارض الغاية السابقة.
ـ فما بالك لو تطوّر النزاع اللفظي إلى مواقف عدائية، أو عنف جسدي أو خلق كيانات متصارعة وأمثال ذلك؟
ـ مع ملاحظة أن للدين قداسة في نفوس المتدينين، وبالتالي فإن الخصومة فيه تُكسِب النزاع ـ عند كل طرف ـ صِبغة القداسة، والتكليف الشرعي، وما إلى ذلك من تصورات وعناوين وشعارات قد يكون بعضها حسناً في ذاته، ولكنه في واقعه من تسويلات الشيطان، وبتعبير أمير المؤمنين(ع): (كلمة حق يُراد بها باطل).
ـ وعندما يكتسب النزاع صفة القداسة والتكليف الشرعي، فإن الخصومة تغدو في أشد صورها، ومن أوسع الأبواب التي ينفذ منها الشيطان... شيطان الجن، وشيطان الإنس، كالمستكبرين، ليدمِّروا أوضاع المؤمنين، وليُفرِغوا المجتمع الإسلامي من أهم عناصر قوته. قال تعالى: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)[الأنفال:46].
2ـ ثم لاحظ أن طبيعة الإنسان التفكير والاجتهاد في الرأي، ولا يمكن استنساخ العقول.. مهما تقاربت الرؤى، ومهما تماثلنا في تفسير الأمور، لابد من حدوث اختلاف في الفهم والتطبيق والأذواق والعمق، حتى في تفاصيل فهمنا للدين وتفسير نصوصه، وإلا لما كان هناك اجتهاد في تفسير القرآن وفي الفقه والمفاهيم.. إلخ.
ـ وبالتالي فالتباين بيننا ـ كمتدينين ـ في دائرة ما نقبله وما لا نقبله، في ما نتبناه وفي ما لا نتبناه، ضمن ما نقتنع به من حجج وأدلة، أمر طبيعي يجب أن نتقبله، ولا نحوّله إلى مادة للنزاع والصراع.
ـ ولم يعيّن الله أحداً منا ليكون ناطقاً باسمه، أو لتكون له السيادة مِن قِبَله في إجبار الناس على ما يقبلون أو يرفضون من أفكار ومفاهيم وتفاسير ذات علاقة بالدين.. كل ما هنالك أن علينا التبليغ وفق قاعدة: (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ، لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ) [الغاشية:21ـ22].
ـ ثم مَن يقول أنك على صواب وهو على خطأ في تفسير هذا النص، أو في فهم هذه الفكرة، أو في تطبيق ذلك الأمر العملي؟ ومن الأمثلة الشائعة المقولات والتساؤلات التالية:
ـ لماذا تعتبر أن تفسير الآية بهذا الشكل؟ لماذا ترفض هذا الحديث؟ لماذا تفهم العصمة بهذه الصورة؟ لماذا أنت غير مقتنع بالرجعة؟ لماذا تنكر وقوع الحادثة الفلانية؟ لماذا تقلد هذا المرجع؟ وتدخل معه في نزاع كلامي طويل عريض وعصبية وصراع وكلمات جارحة وغيبة وووو...
ـ ومن يقول أن تقليدك أنت هو الصحيح؟ ومن يقول أن هذه الطريقة الدارجة في التقليد هي الصحيحة؟ بل ما شأنك أنت بهذا الأمر؟ كل ما عليك ـ لو كنت ترى مسؤولية شرعية وخللاً في الأمر ـ أن تبيّن له مثلاً شروط مرجع التقليد، وكيفية اختياره، وانتهى.. أما الخصومة والمنازعة والتحقير والمحاسبة وأمثال ذلك فلا تجوز، وليست في سبيل الله، بل هي اتباع لخطوات الشيطان وإن تلبّست بلباس الدين..
ـ لو كان الأمر في إطار البحث العلمي فلا بأس، شريطة أن لا يكون هذا البحث مدخلاً للخصومة والتنازع والتشاحن، بل تبقى النفوس طيبة، والعلاقات قائمة.. ومتى ما ظهرت بوادر مخالِفة لذلك فهذا يعني أننا حوّلنا البحث العلمي إلى ما نُهينا عنه، وهو الخصومة في الدين، وهذا يستدعي منا ترك الأمر وتجاوزه.
3ـ بعض الأحاديث تعرضت لشيء من أسباب النهي عن الخصومة في الدين، كالمروي عن الصادق (ع) أنه قال: (إياكم والخصومة في الدين، فإنها تُشغل القلب عن ذكر الله) غاية الدين أن يوصلك إلى الله، وأنت بهذه الخصومة تصورت أنك تسير إلى الله، والواقع أنها أبعدتك عنه!
ـ كما أنها شغلت تفكيرك ـ ولربما تُشلّه عندما تستغرق فيه كثيراً وتعطيه بعداً شخصياً ـ عن الأمور البناءة فكرياً أو عبادياً أو أعمال الخير أو ما يغيّر أوضاعك الخاصة أو الأوضاع العامة إلى الأفضل.
ـ وعندما ينشغل القلب تتراكم الهموم، مما قد يؤثر على الصحة النفسية والجسدية.
(وتورِث النفاق) ففي أحيان كثيرة تتحول المسألة إلى قضية شخصية.. لماذا لا تتوافق معي أنا في الرأي؟
ـ أنا المقياس.. أنا المعيار.. أنا الذي أملك الحقيقة.. فخصومتي معك في الواقع محاولة انتصار لذاتي، لا لله ولا لدينه، وهذا يفتح على الإنسان باب النفاق.. فظاهر الأمر لله وللدين، وواقعه خلاف ذلك.
(وتُكسب الضغائن، وتستجيز الكذب) لأنه إذا حضرت الأنا فتحنا أبواب الصراع غير المقدس على مصراعيه، فنسمح لأنفسنا بأن نفجُر في الخصومة، وأن نسخر من الخصم، ونحقّره، ونسيء الظن فيه، ونبهته، ونتقاتل معه، ونكذب عليه، ونكذب بشأنه.
ـ لقد أرسل الله النبيين مبشرين ومنذرين.. وما جعل لأحد منهم القوة القاهرة لإجبار الناس على أن يؤمنوا بهذه الفكرة أو تلك، بل كانت مسؤوليتهم أن يبلّغوا، وأن يقيموا الحجج (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّـهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوا وَّإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّـهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ)، ولنعلم أن كثيراً من التفاصيل الفرعية ذات العلاقة بالدين على المستوى الفكري والشرعي والتاريخي إنما هي اجتهادات قد نلتقي عليها أو نختلف فيها، وأن الله لن يسألنا عنها إن كنا قد قد جهلناها، أو أخذنا بها وفق ما بلغَنا من حجج وأدلة، فلنُعذِر بعضنا بعضاً، ولا نحوّلها إلى مادة للتنازع وخلق التحزبات الشيطانية، والتمحورات الشخصانية، وتدمير ما تبقى من أسس وأسباب وحدتنا، وما الخصومة في الدين إلا باب من أبواب الشيطان ومغضَبةٌ للرحمن.