حديث الجمعة 26 ذوالقعدة 1441 هـ : الإمام الجواد وآيا صوفيا - الشيخ علي حسن

حديثي هذا اليوم من قسمين، الأول حول الإمام محمد الجواد (ع) والذي يصادف يوم التاسع والعشرين من ذي القعدة ذكرى استشهاده، والآخر حول إعادة تحويل آيا صوفيا إلى مسجد.
روي عنه (ع) أنه قال: (مَن شَهِدَ أمراً فكرهه، كان كمن غاب عنه، ومن غاب عن أمر فرضيه، كان كمن شَهِده). وسأتحدث عن المقطع الثاني من هذه الحكمة فقط وذلك مراعاة للوقت.
للنيات الصادقة والأمنيات الجادة النابعة من القلب قيمة كبيرة وأهمية ملحوظة في الإسلام، قد تكون ذات مردود إيجابي على الفرد، وقد تكون ذات مردود سلبي بل وخطيرة.
في نهج البلاغة في الخطبة برقم 12: (ومن كلام له عليه السلام لمّا أظفره الله تعالى بأصحاب الجمل وقد قال له بعض أصحابه: وددتُ أن أخي فلاناً معك شاهداً ليرى ما نصرَك الله به على أعدائك، فَقَاَلَ لَهُ عَلَيْهِ السَّلامُ: أَهَوَى أَخِيكَ مَعَنَا؟) هل كانت لديه نية صادقة ورغبة حقيقية في أن يكون معنا (فَقَالَ: نَعَمْ. قَالَ: فَقَدْ شَهِدَنَا!) كأنه كان حاضراً معنا ومشاركاً (وَلَقَدْ شَهِدَنَا فِي عَسْكَرِنَا هذَا أَقْوَامٌ في أَصْلاَبِ الرِّجَالِ، وَأَرْحَامِ النِّسَاءِ) أي لم يولدوا إلى الآن (سَيَرْعَفُ بِهِمُ الزَّمَانُ) الرعاف أن ينزل الدم من الأنف فجأة من غير توقع، الإمام استعمل هذه الصورة الحسية ليبين كيف سيجود الزمان بهؤلاء الناس على غير انتظار (ويَقْوَى بِهِمُ الْإِيمَانُ).
بالطبع لا يراد من ذلك المساواة بين الإثنين تماماً، فمن غير المعقول ولا من العدل أن يتساوى من بذل الجهد فعلاً وقُتل أو جُرح أو عانى ما عانى في ساحة المعركة كمن تمنّى ذلك فقط، ولو كانت أمنيته في أعلى درجات الصدق، ولكن الفكرة هي أن هذا المتمنّي لو تهيأت له الظروف فعلاً أن يكون شاهداً للأمر، لأبلى بلاءً حسناً.
أمنية هذا النموذج من الناس لها قيمة وأهمية.
مَن يستطيع تقدير ذلك؟ هذا أمر بين الإنسان وربه، الله وحده هو الذي يستطيع أن يعلم مصداقية هذه الأمنية، فالمسألة ليست كلمات تُطلق في الهواء، يا ليتنا كنا معكم، فمجرد هذا لا يكفي، بل أحياناً تكون سلوكيات ومواقف من يقول ذلك كاشفة أنه غير صادق النية، أو يخادع نفسه، ولو شهد الموقف لكان أوّل الهاربين، أو المتخاذلين، أو من المناصرين للباطل والظلم.
لم نحضر عهدَ رسول الله (ص) لنكون بين يديه في شِعب أبي طالب، ولا في بدر، ولا أحد، ولا الخندق، ولا سائر المواقف الصعبة، ولكن قد ترتقي همتنا ونيّاتنا الصادقة لأن نكون في مصاف الصادقين ممن نصر رسولَ الله (ص).
ولم نكن مع علي (ع) وهو يواجه الناكثين والقاسطين والمارقين، ولكن قد ترتقي همتُنا ونيّاتنا الصادقة لأن نكون في مصاف الصادقين ممن نصر علياً (ع) ممن أخبر أنه (سَيَرْعَفُ بِهِمُ
الزَّمَانُ، ويَقْوَى بِهِمُ الْإِيمَانُ).
والإيمان لا يقوى بأيِّ أحد، وإنما يقوَى بمن ربّى نفسَه وراقبَها وأصلح أمرها وهذّبها وأعدّها لأن تكون قوية في الهزاهز، راسخة في العزيمة، تقف مع الحق ولا تخاف في الله لومةَ لائم، وتنشط في تقوية مواقع الإيمان والعمل الصالح والعدل، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.
ولحكمة الإمام الجواد (ع) وجه آخر، خطير... فكم مِن الناس مَن يرى ظلماً واقعاً، أو عدواناً على الأبرياء، أو موقعاً يُستغل لأكل المال بالباطل، أومعصية تُرتكب، فيتحسّر بصدق كيف أنه لم يكن حاضراً ذلك المقام، ليكرر فعلتهم أو ليشارك معهم فيما ارتبكوا.
كان يتمنى لو أنه كان مكان فلانٍ الطاغية، لفعل أكثر مما فعل.
ويتمنى لو هيّئت له أدوات القهر والعدوان على الأبرياء، لكان تلذذ بآلامهم وعذاباتِهم، ولما تردّد
في أن يرتكب ما ارتكبه أولئك.
ويتمنى لو أنه حاز على ذلك المنصب الرفيع، أو الفرصة الذهبية التي من خلالها ينهب ما ينهبه من خزينة الدولة، أو من أموال الناس بواقع الحيلة أو القهر والقوة.
ويتمنى لو أنه كان حاضراً مجلس المعصية، في أجواء السُّكر والحشيش والفجور، فيذوق مع أصحابِه ما ذاقوا في تلك اللحظات.
هذه الأمنيات النابعة من القلب، التي لو تهيأت الظروف فعلاً ليكون صاحبُها حاضراً، لحضر وفعل ما فعل، هذه الأمنيات، ستكون وبالاً عليه في الآخرة.
(مَن شَهِدَ أمراً فكرهه، كان كمن غاب عنه. ومن غاب عن أمر فرضيه، كان كمن شَهِده).
ننتقل الآن للتعليق على الموضوع الثاني والخاص بإعادة عنوان المسجدية إلى (آيا صوفيا).
قبل 1500 سنة قريباً، بنيت كنيسة ضخمة ورائعة من روائع البناء في القسطنطينية – أي إسطنبول حالياً – وحملت اسم آيا صوفيا، أي الحكمة الإلهية.
ذكر بعض المؤرخين أن الإمبراطور البيزنطي قال لحظة دخولِه إليها: (يا سليمان) يقصد النبي سليمان (لقد تفوقتُ عليك)! فما جاء في وصف البناء الذي شيّده النبي سليمان ليكون بيتاً لله في بيت المقدس أمرٌ مذهل من حيث الضخامة والفخامة، وآيا صوفيا – برأي بانيها – تفوقت عليه.
بعد فتح القسطنطينية، قام العثمانيون بتحويل الكنيسة إلى مسجد، واستمر الأمر كذلك إلى أن جاء رئيس الجمهورية التركية مصطفى كمال أتاتورك سنة 1931، فمنع إقامة الشعائر الدينية في هذا المسجد، ثم صدر مرسوم حكومي سنة 1934 بتحويل المسجد إلى مَتحف.
الأسبوع الماضي ألغت المحكمة الإدارية العليا في تركيا هذا المرسوم الحكومي، وأعيد المكان إلى عنوان المسجدية من جديد، وثارت موجة من ردود الفعل التي تفاوتت بين الموافقة والمستنكرة.
وأُحب أن أعلّق على هذا الموضوع ككل، بغض النظر عن خصوصية آيا صوفيا.
هل من الحكمة تبديل دور العبادة الخاصة بالملل الأخرى إلى مساجد من خلال الغلبة؟
التاريخ يشهد أن هذا الأمر يتحول بمرور الزمان إلى سبب دائم للفتنة.
في ولاية أوتار براديش في الهند، تم تأسيس مسجد سنة 1528م، حمل اسم مسجد بابري. ولأن الهندوس يقولون أن هذا المسجد بُني على أنقاض معبد هندوسي وموضع ولادة الإله (راما)، لذا فقد تحول المسجد إلى قنبلة موقوتة.
في سنة 1949م، قام كاهن هندوسي، ومعه قرابة الخمسين من تلامذته ومريديه، فتسلقوا جدران المسجد ليلاً ووضعوا فيه تماثيل الإله الهندوسي (راما)، وبدأت الفتنة، وتصاعدت حدتها سنة 1992 حيث قام مائة وخمسون ألف هندوسي بهدم المسجد، لتندلع إثر ذلك أعمالُ شغب طائفية، استمرّت عدّة أشهر متسبّبةً في مقتل قرابةِ ألفي شخص. وقبل عدة أشهر حكمت المحكمة العليا في الهند بمنح مُلكية الموقع للهندوس، مما يجعل الأمر مرشحاً للمزيد من الفتن مستقبلاً.
أحياناً يتم تحويل الكنيسة إلى مسجد بالتراضي والاتفاق، كما يجري في الغرب مثلاً، حيث تُباع بعض الكنائس وتتحول إلى مساجد أو حتى حسينيات أو مراكز إسلامية.
ومادام أن الأمر يتم بالتوافق بين الجانبين، وبشكل رسمي وقانوني، وعن طريق البيع، فلا يتوقع حدوث مشكلة في البين... المشكلة عندما يتم الأمر من واقع القوة والغلبة. هذا ما أتحدث عنه.
أنا لا أقول أن إعادة عنوان المسجدية إلى آيا صوفيا خطأ الآن أو ليس بخطأ، فما دام أن المكان أصبح مسجداً في يوم ما، فمن المفترض أن يحافظ على عنوان المسجدية، ولكن الكلام حول ما جرى في بداية الأمر قبل ستمائة سنة تقريباً، وذلك على يد العثمانيين.
بعد تسلم الخليفة عمر بن الخطاب مفاتيح القدس من البطريرك (صُفرونيوس)، دعاه هذا البطرك لتفقد كنيسةِ القيامة، فلبى دعوتَه، ويذكر ابن خلدون - وآخرون - أنه لما حان وقت الصلاة، طلب الخليفة من البطرك أن يختار له موضعاً للصلاة، فقال له: صلِّ موضعَك، فرفض الخليفة وقال: (لو صليتُ داخل الكنيسة، أخذها المسلمون بعدي وقالوا هنا صلى عمر) وبالتالي يكون هذا مبرراً لهم لتحويل الكنيسة إلى مسجد بالقوة ومن واقع الغلبة، وتتحول إلى قنبلة موقوتة وسبباً للفتنة بين المسلمين والمسيحيين. وكنيسة القيامة موجودة إلى هذا اليوم ولم تتحول إلى مسجد.
وقد بقيت الكنائس والبِيَع - أي أماكن عبادة اليهود - موجودة في بلاد المسلمين، لم تُغلق ولم تُحوَّل إلى مساجد.
في وسائل الشيعة بالسند عن (حكم بن الحكم قال: سمعت أبا عبدالله (ع) يقول) ونحن نتكلم عن القرن الهجري الثاني (وسئل عن الصلاة في البِيَع والكنائس؟ فقال: صلّ فيها، قد رأيتُها، ما أنظفَها! قلت: أيصلّى فيها وإن كانوا يصلون فيها؟) أي أنها ليست مهجورة (فقال: نعم، أما تقرأ القرآن: [قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَىٰ سَبِيلًا]).
وخلاصة الكلام، رأيي الشخصي أن تحويل أماكن العبادة الخاصة بالأديان الأخرى إلى مساجد عن طريق الغلبة والقهر تصرف قد يكون منافياً للحكمة، وقد يكون سبباً لإثارة الفتن عبر التاريخ، وأرض الله واسعة، وبإمكان المسلمين أن يجدوا المواقع المناسبة لتأسيس مساجدهم حيث شاءوا.