حديث الجمعة 19 ذوالقعدة 1441 هـ : جزيرة الرهبان - الشيخ علي حسن


وقفت في الأسبوع الماضي للتعليق على الخبر المروي عن رسول الله (ص) حول صلاة يوم الأحد من شهر ذي القعدة، وقدّمت بعض الملاحظات بهذا الشأن، وقد نبهَنا القرآن الكريم إلى خطورة الوضع والإضافة والزيادة والاختراع والبدعة في الدين، ولو كان منطلق ذلك النوايا الحسنة والرغبة في التقرب إلى الله (سبحانه وتعالى)، ودفْع الناس إلى العبادة، وقدّم لنا نموذج الرهبنة كنموذج من نماذج هذا الانحراف عن المنهج العبادي والروحي الذي شُرّع وتم بيانه على يد السيد المسيح (ع)، ثم أضيف إليه تدريجياً، وعلى الأغلب بنوايا حسنة، من قبل بعض الناسكين ما حوّله بمرور الوقت إلى طريقة مخترعة مبتدَعة خالفت الإرداة الإلهية والمنهج الرباني: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ) [الحديد:27].
الرهبانية ليست سرقة ولا زنا ولا عدوان على الناس، الرهبانية تديّن، وسعي للتقرب إلى الله (عز وجل) وقد شاهدت مركزاً للرهبان في ناحية مقطوعة من (أسكتلندا) في جزيرة في وسط بحيرة كبيرة، وهناك لوحة تتضمن الربنامج اليومي للعبادة والعمل للرهبان، صلاة وعبادة في وقت السحر، وأول الصباح وفي الظهر والعصر والليل... برنامج عبادي مكثف، وزهد وتخلي عن مظاهر الدنيا وزخرفها، بل إن الرهبان يحلقون شعورهم بطريقة غريبة، بحيث تكون لهم صلعة مصطنعة يحيط بها الشعر من كل جهة إمعاناً في البعد عن مظاهر الزينة، ونحن نعلم أن الرجال عبر التاريخ حاولوا ويحاولون التخلص من الصلعة بالشعر المستعار وزراعة الشعر، وينفقون الأموال في هذا السبيل، أما هؤلاء فيتعمدون الصلع رغبة في البعد عن الدنيا والتقرب إلى الله. هل هذا الأمر مقبول؟ تجيب الآية: (وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا). الله لا يريد البدع.
وهذا ما نبّه إليه الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع) كما روي عنه في الصحيفة السجادية تحت عنوان (وكان من دعائه (ع) في مكارم الأخلاق): (اللَّهُمَّ صَـلِّ عَلَى مُحَمَّـد وَآلِـهِ وَحَلِّنِي بِحِلْيَـةِ الصَّالِحِينَ، وَأَلْبِسْنِي زِينَةَ المُتَّقِينَ) وكيف ذلك؟ من خلال الالتزام بالأمور التالية: (فِيْ بَسْطِ الْعَدْلِ، وَكَظْمِ الْغَيْظِ، وَإطْفَاءِ النَّائِرَةِ) أي العدواة والخصومة (وَضَمِّ أَهْلِ الْفُرْقَةِ، وَإصْلاَحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَإفْشَاءِ الْعَارِفَةِ، وَسَتْرِ الْعَائِبَةِ، وَلِينِ الْعَرِيكَةِ، وَخَفْضِ الْجَنَـاحِ، وَحُسْنِ السِّيرَةِ، وَسُكُونِ الرِّيـحِ) أي لا أكون انفعالياً سريع الغضب ولأتفه الأمور وأبسط الأسباب (وَطِيْبِ الْمُخَالَقَـةِ، وَالسَّبْقِ إلَى الْفَضِيلَةِ، وإيْثَارِ التَّفَضُّلِ، وَتَرْكِ التَّعْبِيرِ، وَالإفْضَالِ عَلَى غَيْرِ الْمُسْتَحِقّ، وَالـقَوْلِ بِالْحَقِّ وَإنْ عَـزَّ، وَاسْتِقْلاَلِ الخَيْـرِ وَإنْ كَثُـرَ، مِنْ قَـوْلِي وَفِعْلِي، وَاسْتِكْثَارِ الشَّرِّ وَإنْ قَلَّ، مِنْ قَوْلِي وَفِعْلِي) حتى يتشجع الإنسان للمزيد من الخير، ويزهد في الشر ويتجنبه ويقلل منه ما أمكن (وَأكْمِلْ ذَلِكَ لِي بِدَوَامِ الطَّاعَةِ، وَلُزُومِ الْجَمَاعَةِ، وَرَفْضِ أَهْلِ الْبِدَعِ وَمُسْتَعْمِلِ الرَّأي الْمُخْتَرَعِ).
لاحظوا أعزائي كيف بدأ الإمام (ع) بالحديث عن حِلية الصالحين وزينة المتقين، وبيّن حدود ذلك وصفات أصحابها، ثم نبّه إلى تجنّب الاختراع والابتداع في طريق تحقيق هذه التزكية للنفس وفي طريق تحقيق التقوى والصلاح.
فعنوان الصلاح والتقوى بيئة خصبة لظهور البدع من قبل البعض... ولكن، من الذي يتجرأ ويضع مثل هذه الأخبار والروايات ويسوق الناس إليها سوقاً عن غفلة منهم وتشوّق للتقرب إلى الله (سبحانه)؟ وهو السؤال الذي أرجأت الإجابة عليه في نهاية الحديث السابق.
أحد علمائنا المشهورين عبر التاريخ هو الشيح زين الدين العاملي المعروف بالشهيد الثاني، وقد استشهد 965 هـ في قضية مؤلمة. المهم، الشهيد الثاني لديه كتاب يحمل عنوان (الرعاية في علم الدراية) وعلم الدراية علم مرتبط بالأحاديث.
في هذا الكتاب يقول الشهيد الثاني: (وكذلك ذهب بعض المبتدعة من المتصوفة) ليس كلهم، هناك من المتصوفة من قال بما يلي (إلى جواز وضع الحديث للترغيب والترهيب، ترغيباً للناس في الطاعة، وزجراً لهم عن المعصية) يعني لم يكتفوا بالوضع والتزوير والافتراء على رسول الله (ص)، بل أحياناً حتى على الله من خلال وضع ما يعرف بعنوان الأحاديث القدسية، بل وشرعنوا ذلك، أي وضعوا التبرير لذلك، بما يسوّغ لغيرهم فعل نفس الأمر والتشجيع عليه (واستدلوا بما روي في بعض طرق الحديث) الآن فلنلاحظ الاستدلال والمبرر الغريب الذي جاءوا به: ([من كذب عليّ متعمداً - ليُضِلّ به الناس - فليتبؤا مقعدَه من النار]) يعني لو كذب على النبي (ص) متعمداً لغاية نبيلة فلا بأس، بل لربما يكون مثاباً عليه، ولكن إذا كان للإضلال فهذا هو الممنوع، وهذا هو الذي يستوجب العقاب الأخروي الشديد.
بالطبع هذا الاستدلال باطل من جهتين، من جهة أن الافتراء على الله (عز وجل) - ولو لغاية نبيلة - أمر ممنوع تماماً، وهو من كبائر وعظائم الذنوب: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) [الأنعام:21]. وهكذا الأمر بالنسبة إلى الافتراء على رسول الله (ص) أو الإمام (ع).
ومن جهة ثانية هو باطل لأن هناك زيادة أضيفت من عندهم على أصل الحديث المروي عن النبي، فالحديث كالتالي: (من كذب عليّ متعمداً فليتبؤا مقعدَه من النار) فأضافوا مقطع (ليُضِلّ به الناس) في الوسط لتوظيف الحديث لمصلحتهم.
ولذا قال الشهيد الثاني معلقاً: (وهذه الزيادة: قد أبطلها نقلةُ الحديث) أي أن هذا المقطع ليس من كلام النبي (ص)، وهذا افتراء آخر.. لاحظ إلى أي درجة تبلغ جرأة البعض.
ثم ذكر الشهيد الثاني محاولة أخرى منهم لتصحيح فعلهم، حيث أوّلوا الحديث السابق بأن الكذب على رسول الله يعني اتهامه بالسحر أو الجنون! وليس المراد منه اختراع كلام ونسبته للنبي.
أما المحاولة الثالثة منهم فذكرها الشهيد الثاني كالتالي: (حتى قال بعض المخذولين) يعني الذين لا يملكون دليلاً ولا يصح تأييدهم (إنما قال: مَن كذب علي، ونحن نكذِب له ونقوي شرعه!!) عجيب! يعني الممنوع الكذب الذي يسيء للنبي، أما إذا كذبت على لسانه بشيء حسن فلا مانع.
وختم الشهيد الثاني كلامه قائلاً: (نسأل الله السلامة من الخذلان).
بالطبع الشهيد الثاني ليس الوحيد الذي تطرّق إلى هذا الأمر، فهناك من علماء السنة والشيعة من أكّد وقدّم الأدلّة عليه، وقد قام العلامة الأميني صاحب موسوعة الغدير في المجلد الخامس منها بعقد فصل مطوّل ذكر فيه سلسلة (الكذّابين والوضاعين والذين وضعوا الحديث حسبة).
أي احتساباً للثواب!
قال أبو عمرو ابن الصلاح، وهو من علماء أهل السنة المتوفّى سنة 643هـ في مقدمته في علوم الحديث: (والواضعون للحديث أصناف، وأعظمهم ضرراً قومٌ من المنسوبين إلى الزهد، وضعوا الحديث احتساباً فيما زعموا، فتقبّل الناس موضوعاتهم ثقةً منهم بهم، وركنوا إليهم).
وبالفعل هنا مكمن الخطورة... انخداع الناس بمصدر هذه الموضوعات.
بل الذي يزيد خطورة بعض هذه الأخبار الموضوعة أنها قد تكون من واضع خبيثي النفوس، الذين يريدون أن يجرئوا الناس على العقوق والظلم، بلحاظ أن كم ركعة صلاة يمكنها أن تمحو كل تلك السيئات، وأن يحرفوا بالتالي منهج تزكية النفس في الإسلام عن مساره الصحيح.
وقد ظهر خبر صلاة يوم الأحد في أوساط أهل السنة أوّلاً، وأخذ بعض علمائهم منه موقفاً واضحاً، حتى قالوا عن صاحب الخبر: (كذّاب دجّال، وضع من هذا الضرب أحاديث صلاة يوم الأحد وليلة الأحد إلى سائر أيام الأسبوع).
ثم دخل للأسف إلى مصادرنا في القرن السابع الهجري، ويجب أن نأخذ نحن أيضاً موقفاً منه، فهذه مسئولية شرعية بتخليص شرع الله من البدع ومن الافتراء على الله ورسوله.