حديث الجمعة 5 ذوالقعدة 1441 هـ : النجش الإلكتروني - الشيخ علي حسن


مع طول فترة الجلوس في البيت مع فرض الحظر الكامل أو الجزئي ضمن الظروف التي نعيش فيها بسبب جائحة الكورونا، أو انقطاع سبل الرزق، أو تدنّي مستوى الدخل، يلجأ البعض إلى كسب شيء من المال من خلال التجارة عبر الإنترنت.
هذا الأمر في نفسه علامة جيدة على حيوية هؤلاء الأفراد، وعدم استسلامهم للظروف الصعبة، ولكن من الضروري الانتباه إلى بعض التفاصيل التي تجعل من بعض هذه التجارة تعاملات غير شرعية. وقد نبّه أمير المؤمنين (ع) إلى ذلك حيث قال: (معاشر الناس، الفقه ثم المَتجر، والله لَلربا في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل على الصفا)، وبالطبع فإن الربا مجرد محذور من مجموعة محاذير في هذا الشأن.
وفي رواية أخرى أنه (ع) قال: (مَن لم يتفقه في دينه ثم اتّجر، ارتطم في الربا ثم ارتطم)، وهو ما يستدعي التثبّت قبل الإقدام على التعاملات التجارية والتأكد من مشروعيتها، وعدم الاكتفاء بالعناوين أو التبريرات التي قد تكون خادعة في بعض الأحيان.
ولنأخذ مثالاً عملياً على ذلك:
تُقام بعض المزادات عبر الإنترنت على بعض السلع، ومن المعلوم أن رفع سعر السلعة المعروضة حينذاك يعتمد على التنافس بين المهتمين بها، بحيث يقوم كل منهم بالرفع من قيمتها أملاً في أن تكون تلك السلعة من نصيبه، ولا مانع في ذلك – شرعاً – ما دام رفع القيمة ناتجاً عن رغبة حقيقية في التملك والتنافس عليها.
ولكن المشكلة في قيام بعض الأصدقاء أو الأقرباء بإقامة المزاد على سلعة ما، مع وجود اتفاق مسبق بينهم بدخول بعضهم فيه وكأنهم مشترون حقيقيون ويرغبون فعلاً في السلعة المعروضة، ومن ثَم يقوم كلٌّ منهم برفع سعرها والمزايدة أملاً في أن يقوم الراغبون الحقيقيون فيها برفع القيمة المقترحة لتُباع في نهاية المطاف بسعر مرتفع .
هذا هو ما يُصطلح عليه لغوياً وفي الشرع بعنوان (النجَش/النجْش في البيع)، وقد عُرِّف بأنه (زيادة الرجل ثمن السلعة ، وهو لا يريد شراءها ، ولكن ليَسمَعَه غيرُه فيزيدَ بزيادته).
إجمالاً، لا خلاف على حرمة (النجش) بين فقهاء السنة والشيعة. ففي كتاب (الفقه على المذاهب الأربعة): (وهو حرام نهى عنه رسول الله [ص]).
وفي كتاب (منهاج الصالحين) للسيد الخوئي: (النجش حرام.... سواء أ كان ذلك عن مواطاة مع البائع أم لا). يعني حتى لو دخلت المزاد دون اتفاق مسبق مع البائع أو الجهة المسئولة عن المزاد، بل لمجرد التسلّي بمشاهدة القيمة ترتفع والمزاد يحتدم، هذا أيضاً حرام، فالمعاملة التجارية يجب أن تأخذ مجراها الطبيعي بعيداً عن المؤثرات الزائفة.
بل إن بعض الفقهاء حرّم النجش حتى وإن لم يكن فيه غش وخداع وتغرير للغير. أي أن نفس الأمر منهي عنه.
وحتى لو لم نملك فتوى شرعية في النجش، من الواضح أنه ممارسة غير أخلاقية، ويمكن للعقل والضمير أن يحكما بذلك دون تردد.
وهنا بُعد آخر مهم للمسألة. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً) [النساء:29-30].
عندما نتحدّث عن الآثار السلبية المترتبة على ما عبَّرَت عنه الآية بعنوان (أكل المال بالباطل)، فإننا لا نتحدّث عن تلك المترتّبة على الفرد فقط، فالقرآن عندما يتحدّث عن المجتمع يتحدّث عنه باعتباره وحدة عضوية. ولذا فإن تقييم الأمور، بما في ذلك المعاملات، من حيث حُسنها وقُبحها، ونفعها وضررها، يجب أن يُلاحَظ فيه ذلك أيضاً.
فعندما تحدّثَت الآية عن الأموال والتصرّف بها، والتحذير من العدوان عليها، فإنها تحدَّثَت عنها بعنوان «أَمْوَالَكُمْ».. فهل يقوم إنسان عاقل ورشيد بسوء التصرف بأمواله النقدية بأن يحرقها مثلاً؟
بالطبع لا.. تقول لنا الآية: هكذا عليكم أن تتعاملوا مع أموال الآخرين في دائرة المجتمع الواحد.. فالضرر الذي يلحق بملكية سائر الأفراد في هذا المجتمع ضرر بكم أيضاً، لأنكم وحدة واحدة.
وعندما تحدّثَت عن الأفراد الذين يتألّف منهم المجتمع، محذِّرةً من الاعتداء عليهم بالقتل والظلم، فإنها تحدّثَت عنهم بصفتهم «أَنفُسَكُمْ».. فهل يقبل الإنسان العاقل بأنْ يُلحِق الضرر بنفسه فينتحر أو يقطع لسانه أو يقتلع عينيه مثلاً؟
ومن هنا ــــ في التشريعات الخاصة بالمسائل الاقتصادية ــــ لا ينبغي أن يُلحَظ النفع والضرر، والحُسن والقُبح، بما له علاقة بالفرد فقط، بل أن يُلحَظ أيضاً تأثيرُه على اقتصاد المجتمع، وترسيخ الطبقية الحادة، وتكوين الثروات لبعض الأفراد دون عائد حقيقي على التنمية، وغير ذلك.
ولو دقّقنا في الشروط المتعلقة بصحة البيع والشراء وسائر التعاملات التجارية في التشريع الإسلامي، فإننا لن نجدها من أجل حفظ حقوق الأفراد فقط، بل ومن أجل الحفاظ على الاقتصاد العام وتنميته أيضاً. وبالتعبير القرآني: (كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاء مِنكُمْ) [الحشر:7].
كما أن الإسلام يربط دائماً أو غالباً بين نماء المال وبين حصول ناتج خارجي حقيقي، أي أنه يمنع ـــ أو على الأقل لا يشجّع ـــ التعاملات التي ينمو من خلالها المال دون مردود تنموي حقيقي، وعلى الأرض، وفي الواقع.
ومن هنا لم يصحِّح بعض الفقهاء صوراً من التعامل بالأسهم، لأنها لا تستجمع شرائط عملية البيع والشراء، من قبيل:
1ـ التعامل بأسهم الشركات الورقية (أي الشركات التي لا يكون لها نشاط اقتصادي حقيقي).
2ـ والبيع الآجِل.
كما لم يصحح بعض الفقهاء - بل حرّم آخرون منهم - التعاملَ بالعملات الرقمية لهذا السبب أو غيره. ولذا من الضروري أن تسأل وتتعلم شيئاً من المباديء الشرعية في عالم التجارة قبل أن تخوض فيه، تماماً كما تتعلم كيف تتاجر، وكيف تستعمل الطرق والوسائل الحديثة للتجارة.
وما أجمل كلمة أمير المؤمنين في وصيته لابنه الحسن (ع) والمروية في نهج البلاغة، وهي وصية مهمة حيث يقول له: (وَإِيَّاكَ أَنْ تُوجِفَ بِكَ مَطَايَا الطَّمَعِ) توجف أي تُسرع.. فهوى النفس قوي جداً، وهو يدفع الإنسان دفعاً للاستجابة لشهواته ورغباته، ويمكنه أن يحوّل أطماعه إلى ما يشبه الحصان السريع الذي يركبه فلا يسيطر عليه (فَتُورِدَكَ مَنَاهِلَ الْهَلَكَةِ) أي فيقودك في النهاية إلى حيث لا تريد، بل إلى ما يهلكك بأنواع الهلكة.