حديث الجمعة 27 شوال 1441 هـ: وقرآن الفجر - القسم الثالث - الشيخ علي حسن

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء:78]. وقفنا عند هذه الآية الشريفة وقفة ارتبطت بالحديث عن توقيت فرض الصلوات اليومية في عام الإسراء، ووقفة أخرى حول كيفية ومواقيت الصلاة قبل ذلك.
والوقفة الثالثة اليوم ترتبط بخصوصية التعبير الوارد في الآية والذي جاء بعنوان (قرآن الفجر).
فالصلوات الأربع المشمولة في قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ) هي الظهر والعصر والمغرب والعشاء، وتبقى صلاة الفجر التي عُبِّر عنها بعنوان (قرآن الفجر). والتقدير (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَ) أقم (قُرْآنَ الْفَجْرِ)، أي (أقم صلاة الفجر بالقرآن). فلماذا جاءت هذه الصلاة على وجه التحديد بهذا العنوان دون سائر الصلوات؟
ولماذا لم تكن العبارة كالتالي: (وصلاة الفجر)؟
الرأي الأول: لأن المصلي يجهر بالقرآن في الركعتين.
وهذا الرأي ليس بسديد، لأننا نعلم أن صلاتي المغرب والعشاء أيضاً جهريتان، فلماذا لم تُذكرا بهذه الصفة؟
الرأي الثاني: لأنّ من المسنون – بعد قراءة الفاتحة - أن يقرأ من طوال السور المفصلات، أي السور ذات المقاطع القصيرة، فيختار السور الطويلة منها مثل سورة ق، أو سورة الرحمن، ويتلوها في صلاة الفجر. ولذا أصبحت حصة القرآن في صلاة الفجر مميزة وكبيرة مقارنة بسائر الصلوات. وفي رواية: (أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ (ص) كَانَ يَقْرَأُ فِي صَلَاةِ الْغَدَاةِ مِنْ السِّتِّينَ إِلَى الْمِائَةِ).
وبحسب هذا الرأي فإنها سميت (قرآن الفجر) لطول قراءة القرآن فيها.
وأضاف بعض أصحاب هذا الرأي أن هذا الأمر إذا كان يسبب حرجاً للمصلي، فليكتفِ بالأقل من ذلك.
وقد وري أن رجلاً قال: (يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ الصَّلَاةِ فِي الْفَجْرِ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا فُلَانٌ فِيهَا . فَغَضِبَ رَسُولُ اللَّهِ (ص)) قال الراوي: (مَا رَأَيْتُهُ غَضِبَ فِي مَوْضِعٍ كَانَ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ ثُمَّ قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَمَنْ أَمَّ النَّاسَ فَلْيَتَجَوَّزْ) أي فليخفف (فَإِنَّ خَلْفَهُ الضَّعِيفَ وَالْكَبِيرَ وَذَا الْحَاجَةِ).
وقد جاء في كتاب (العروة الوثقى) تحت عنوان (فصل في مستحبات القراءة): (العاشر) أي من العاشر من المستحبات (قراءة بعض السور المخصوصة في بعض الصلوات: كقراءة عم يتساءلون، وهل أتى) أي سورة الإنسان (وهل أتاك) أي سورة الغاشية (ولا أقسم) أي سورة البلد (وأشباهها في صلاة الصبح).
الرأي الثالث: يذهب إلى أن المسألة ليست مسألة طول السور ومقدارها، بل الكيفية التي تتم فيها القرءة، والظروف المحيطة بها.
فعندما يؤدي الإنسان صلاة الفجر في الوقت المخصص لها في أول اليوم، تكون النفس صافية والأوضاع هادئة، فتتلقى هذه النفسُ القرآنَ الذي تقرأه في الصلاة ندياً طرياً، وتستقبلُه استقبالاً واعياً قبل أن تنشغل بأمور الحياة، فهي الصلاة التي يتمثل فيها الجوّ القرآني في روحانيته المتميزة بهدوء الليل وانفتاح النور، لتكون الوجه الذي يشير إلى الصلوات الأخرى بأبلغ تعبيرٍ، وأروع صورةٍ، وكأنها تقول لك، انظر كيف تكون روحانية القرآن خلال صلاة الفجر، هكذا يجب أن تكون في سائر الصلوات. إنها المعيار الذي من خلاله تقيس بقية الصلوات فيما يخص أبرز ركن فيها، وهو تلاوة آيات من كتاب الله.
وسواء أكنت مع الرأي الثاني أو الثالث، من الواضح أن لقراءة القرآن في صلاة الفجر خصوصية تميّزها عن سائر الصلوات، ومن هنا جاء التعبير بقرآن الفجر. والله أعلم.
ننتقل الآن إلى المقطع الأخير من الآية حيث يقول سبحانه: (إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا). فما معنى ذلك؟ لا سيما بلحاظ أن الله على كل شيء شهيد، وأن الملائكة تحضر الإنسان وتشهد أعمالَه وأقوالَه ونواياه؟
هذا السؤال وجهه إسحاق بن عمار الساباطي، وهو من أصحاب الإمام جعفر الصادق (ع) حيث قال: (قلت لأبي عبد الله (ع): أخبرني عن أفضل المواقيت في صلاة الفجر) يسأل عن وقت فضيلة الفجر، لأن لكل صلاة وقت فضيل، يكون من الأفضل أداء الصلاة فيه، والثواب فيه مضاعف (قال: مع طلوع الفجر) أي أن أول وقت الفجر هو الأفضل لأداء صلاة الفجر فيه، ثم أضاف الإمام (ع) قائلاً: (إن الله تعالى يقول [إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] يعني صلاة الفجر تشهده ملائكةُ الليل وملائكةُ النهار، فإذا صلى العبد صلاة الصبح مع طلوع الفجر أُثبت له مرتين، تُثبته ملائكةُ الليل وملائكةُ النهار).
وفي رواية أخرى عن رُزيق عن الإمام الصادق (ع) أيضاً أنه: (كان يصلي الغداة بغلس) والغلس: ظُلمة آخر الليل. ثم وضّح الإمام (ع) ذلك قائلاً: (عند طلوع الفجر الصادق، أول ما يبدو قبل أن يستعرض) أي قبل أن يزداد خيط النور حجماً واتساعاً. قال الراوي: (وكان يقول: [وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] إن ملائكة الليل تصعد، وملائكة النهار تنزل عند طلوع الفجر، فأنا أحب أن تشهد ملائكةُ الليل وملائكةُ النهار صلاتي. وكان يصلي المغرب عند سقوط القرص قبل أن تظهر النجوم).
قال العلامة الطباطبائي في تفسيره الميزان أن الروايات عن السنة والشيعة اتفقت على هذا المعنى، وجاء بالرواية التالية: (أخرج الحكيم الترمذي في نوادر الأصول وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن أبي الدرداء قال: قرأ رسول الله (ص): [إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا] قال: يشهده اللهُ وملائكة الليل وملائكة النهار). ثم علّق قائلاً: (تفسير كون قرآن الفجر مشهوداً في روايات الفريقين بشهادة ملائكةِ الليل وملائكةِ النهار يكاد يبلغ حد التواتر، وقد أضيف إلى ذلك في بعضها شهادةُ الله كما في هذه الرواية).
ابن عاشور في تفسيره المعروف باسم (التحرير والتنوير) أضاف أمراً آخر تمثّل خصوصية لصلاة الفجر حيث قال: (وأيضاً فهي يحضرها أكثر المصلين) يقصد في المساجد (لأنّ وقتَها وقتُ النشاط، وبعدها ينتظر الناسُ طلوعَ الشمس ليخرجوا إلى أعمالهم، فيكثُر سماع القرآن حينئذٍ) أي ما بعد انتهاء الصلاة إلى طلوع الشمس.
ونجد إشارة إلى مثل هذا المعنى في رواية في تفسير العياشي عن سعيد بن المسيب عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين (ع) قال: (قلت له: [وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا]؟) فأجاب الإمام: (يشهدُ المسلمون، ويشهدُ ملائكةُ الليل والنهار).
ولكن لربما مع التغيرات الحادثة في تصميم المدن ونمط الحياة، تغيّر ذلك، بحيث لم تعد صلاة الفجر في المساجد تشهد مثل هذا الحضور المكثّف، ولكنها هكذا كانت على مدى قرون ممتدة منذ عهد رسول الله (ص) إلى زمن قريب.
وعلى كل حال، فإن لصلاة الفجر روحانيتها الخاصة التي ينبغي الاعتناء بها، ولو جاء بها المكلف فرادى في بيته، ولنسع أن يكون للقرآن الكريم نصيب في ذلك كما أراد الله سبحانه وتعالى من خلال ما نتلوه في هذه الصلاة وبعدها.