حديث الجمعة: 20 شوال 1441 - الشيخ علي حسن : وقرآن الفجر - القسم الثاني

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء:78]. وقفنا عند هذه الآية الشريفة وقفة ارتبطت بالحديث عن توقيت فرض الصلاة والصلوات اليومية.
وقد سئلت من قبل عدد من الإخوة الأعزاء عن الصلاة التي عهدها النبي (ص) والمسلمون في بدايات البعثة النبوية الشريفة، وإلى أن تم تحديد الصلوات اليومية وأوقاتها في هذه الآية في عام الحزن الذي يبدو أنه هو نفسه عام الإسراء.
والحقيقة أننا لا نملك نصاً أكيداً وقاطعاً بهذا الخصوص، لا من حيث كيفية الصلاة ولا من حيث الأوقات التي كانوا يصلون فيها، وهناك مقولات واجتهادات وآراء متعددة في هذا الباب لدى السنة والشيعة، وسأستعرض قسماً منها كما يلي:
1. روى الراوندي في قصص الأنبياء عن علي بن إبراهيم القمي من دون إسناد إلى النبي ولا إلى إمام أن جبرئيل في بداية البعثة أنزل بماء من السماء، فقال: (يا محمد، توضأ، فعلمه جبرئيل الوضوء على الوجه واليدين من المرفق ومسح الرأس والرجلين إلى الكعبين، وعلمه الركوع والسجود، فدخل علي إلى رسول الله صلوات الله عليهما وهو يصلي - هذا لما تم له (ص) أربعون سنة - فلما نظر إليه يصلي قال: يا أبا القاسم، ما هذا؟ قال: هذه الصلاة التي أمرني الله بها، فدعاه إلى الاسلام فأسلم، وصلى معه، وأسلمت خديجة، فكان لا يصلي إلا رسول الله (ص)، وعلي (ع) وخديجة (ع) خلفَه، فلما أتى لذلك أيام، دخل أبو طالب إلى منزل رسول الله (ص) ومعه جعفر، فنظر إلى رسول الله (ص) وعليٌّ بجنبه يصليان، فقال لجعفر: يا جعفر، صِلْ جناح ابنِ عمك، فوقف جعفر بن أبي طالب من الجانب الآخر..... فلما نبئ رسول الله (ص) أسلم زيد أيضاً، فكان يصلي خلف رسول الله (ص) علي وجعفر وزيد وخديجة).
وفي بعض مصادر أهل السنة ما يشبه هذا القول ولكن مع اختلاف في كيفية الوضوء. وعموماً هناك بعض الملاحظات على ما جاء في التفاصيل.
وبناء على هذا القول وبعض الأخبار الأخرى قال الشيخ علي كاشف الغطاء في كتاب (الصلاة): (ولما تمَّ عمرُه الشريف أربعين سنة، بعثه الله للعالمين رسولاً يوم الإثنين سبعة وعشرين من رجب، وعلّمه جبرائيل إذ ذاك) أي عند البعثة (حدودَ الصلاة، ولم يُنزِل عليه أوقاتِها، فكان يُصلي ركعتين بالغداة) يعني الصبح (وركعتين بالعشي. وكانت الصلاة فرضاً عليه، وسنّةً لأمته، ثم فُرضت الصلوات الخمس بعد إسرائه ومعراجه. وفي اليوم الثاني من البعثة، وهو يوم الثلاثاء، دخل عليه علي (ع)، فلما نظر إليه يصلّي قال: يا أبا القاسم، ما هـذا؟ ...) إلخ ما جاء في الرواية السابقة.
ثم أضاف الشيخ كاشف الغطاء: (وكان النبي (ص) إذا صلى، صلى بين الركنين الأسود واليماني، وجعل الكعبة بينه وبين الشام بحيث يكون اتجاهه (ص) في صلاته للكعبة وبيت المقدس، ما دام في مكة المكرمة). وفي رأي آخر أن هذا كان بعد فرض الصلوات الخمس اليومية وليس قبل ذلك.
وقال كاشف الغطاء: (وفي ذات يوم دخل (ص) الكعبة) ويبدو أن المقصود هنا المسجد الحرام (وافتتح الصلاة. فقال أبو جهل: مَن يقدم إلى هذا الرجل فيُفسد صلاته عليه؟ فقام ابن الزبعرى، وألقى عليه فرثاً) بقايا الطعام في الكَرِش (وجاء أبو طالب (رحمه الله) وقد سل سيفه وأمر عبيده أن يُلقوا السلا) أي مشيمة الذبائح أو الأمعاء من بقايا جوف الذبائح (عن ظهره ويغسلوه، ثم أمرهم أن يأخذوه فيمروا على أسبلتهم بذلك) رؤوسهم أو أطراف شواربهم أو مقدم لحاهم.
وفي تاريخ الطبري عن عفيف الكندي، وهو من أهل اليمن، قال: (كنت أمرءً تاجراً، فقدِمت أيام الحج، فأتيت العباس، فبينا نحن عنده إذ خرج رجل يصلي، فقام تجاه الكعبة، ثم خرجت امرأة فقامت معه تصلي، وخرج غلام، فقام يصلي معه. فقلت: يا عباس، ما هذا الدين؟ إن هذا الدين ما أدري ما هو؟ قال: هذا محمد بن عبدالله، يزعم أن الله أرسله به، وأن كنوز كسرى وقيصر ستُفتح عليه، وهذه امرأته خديجة بن خويلد آمنت به، وهذا الغلام ابن عمه علي بن أبي طالب آمن به. قال عفيف: فليتني كنت آمنت يومئذ، فكنت أكون رابعاً).
وخلاصة هذا القول أن الصلاة منذ بداية البعثة إلى حادثة الإسراء سنة 10هـ كانت لمرتين في اليوم، وفي كل مرة ركعتان، إحداهما في الصباح والأخرى في الليل، وبمثل هذا قال بعض علماء أهل السنة أيضاً. وأنها كانت مفروضة على النبي فقط، وكانت مسنونة للمسلمين وليست فرضاً.
وقد اعتبر الحسن البصري أن قوله تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ) [غافر:55] تشير إلى هاتين الصلاتين في الصباح والمساء.
2. ابن حجر الهيتمي في كتابه (تحفة المحتاج لشرح المنهاج) قال: (ثم أُمر بتبليغ قومه بعد ثلاث سنين من مبعثه، وأول ما فَرض الله تعالى عليه بعد الإنذار والدعاء إلى التوحيد من قيام الليل ما ذَكر في أول سورة المزمل) أي قوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً، نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً] الآيات من 1-3 (ثم نسخ بما في آخرها) أي في الآية 20: [إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا] (ثم نُسخ بالصلوات الخمس إلى بيت المقدس ليلة الإسراء بمكة بعد النبوة بعشر سنين وثلاثة أشهر).
وملخص هذا الرأي أن الصلاة فرضت بعد 3 سنوات من البعثة، وكانت ضمن قيام الليل دون تحديد لعدد الركعات، ثم نُسخ هذا الحكم بحيث لا تستغرق الصلوات نصف الليل تقريباً، بل مقداراً منه، ثم نسخ بفرض الصلوات الخمس الموزعة على اليوم الواحد.
3. الدكتور جواد علي في كتابه (تاريخ الصلاة في الإسلام) يقول: (وورد أن الرسول كان يخرج إلى الكعبة أول النهار، فيصلي صلاة الضحى، وكانت صلاة لا تنكرها قريش، وكان وأصحابه إذا جاء وقت العصر تفرقوا في الشعاب فرادى ومثنى، فيصلون صلاة العشي. وكانوا يصلون الضحى والعصر، وهي صلاة العشي، ثم نزلت الصلوات الخمس. فصلاة المسلمين الأولى إذن صلاتان، صلاة في أول النهار، دعوها بصلاة الضحى، وصلاة في العصر، دعوها صلاة العشي وصلاة العصر. ويمثل هذا الرأي رأي أكثر العلماء).
4. قال المزني والمقريزي وآخرون أن الصلاة كانت مرتين أيضاً، ولكن مرة قبل طلوع الشمس، وأخرى قبل غروبها، مستشهدين بقوله تعالى: (وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّك قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا) [طه:130].
5. أما العلامة الطباطبائي فقال حول فرض الصلاة في الإسراء: (فَرْض أصل الصلاة كان قبل ذلك) أي قبل الإسراء (وأما أنها كم ركعة كانت فغير معلوم، غير أن الآثار تدل على أنه (ص) كان يقيم الصلاة منذ بعثه الله نبياً. وفى سورة العلق: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى، عَبْدًا إِذَا صَلَّى) [العلق:9-10]، وقد روي أنه (ص) كان يصلى بعلي وخديجة (ع) بالمسجد الحرام قبل أن يُعلن دعوته بمدة).
وأما عن كيفية هذه الصلاة قبل نزول الآية 78 من سورة الإسراء، فلا نملك أيضاً دليلاً أكيداً على كيفيتها، ولكن الذي أميل إليه أنها لم تكن مختلفة كثيراً عن هذه الصلاة التي نأتي بها
والتي تمثّل بحسب الظاهر هيئة الصلاة الإبراهيمية، قال تعالى: (وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ) [الحج:26].
والمشتملة على كل صور التعبير عن الخضوع والخشوع للمعبود جل وعلا، وذلك من خلال القيام والركوع والسجود.
هذه الصلاة التي حرّفها الجاهليون الوثنيون وحوّلوها إلى الهيئة التي جاءت في قوله تعالى: (وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ) [الأنفال:26]
أي أن صلاتَهم كانت تصفيراً وتصفيقاً، وهما ضرب من اللهو واللعب والعبث، وخالية من الاحترام والتقديس والخشوع والحشمة، بما يجعلها غير لائقة أن تكون تعبيراً عن التواصل مع الله سبحانه وتعالى وبعنوان الصلاة، وعلى أنها نوعٌ من تقدير العبد لخالقه. وما زلنا نرى في بعض الأديان الاعتماد على الرقص والغناء والموسيقى كنوع من الصلاة والزلفى إلى الآلهة.
ومن هنا جاءت سورة الماعون لتتحدث عن هذه النوعية من الصلاة العبثية حيث قال تعالى: (أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، فَوَيْلٌ
لِّلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ) [الماعون:1-7].
فالآيات بحسب الظاهر تتحدث عن المشركين الذين كانوا يكذبون بيوم
القيامة ونتيجة ذلك فإنه كانت تصدر عنهم مجموعة من السلوكيات والتصرفات التي تُغضب رب العالمين، ويتوعّدهم من خلالها بالويل، ومن بينها صلاتهم اللهوية العبثية التي لا تشتمل على أي مظهر من مظاهر الخشوع والتبجيل الحقيقي لله سبحانه وتعالى.


إن شاء الله ستكون لنا في الأسبوع المقبل وقفة أخرى مع قوله تعالى: (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء:78].