حديث الجمعة: 13 شوال 1441 - الشيخ علي حسن : وقرآن الفجر - القسم الأول

(أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء:78]. سأقف عند هذه الآية الشريفة عدة وقفات وفي أكثر من حديث جمعة.
الوقفة الأولى: الآية من سورة الإسراء، وسورة الإسراء مكية، وعلى الأظهر أن السورة نزلت بعد عشرة أعوام من بعثة النبي (ص)، وهو عام الحُزن الذي فقد فيه النبي زوجته السيدة خديجة وعمَّه المحامي عنه مؤمنَ قريش (أبا طالب)، رضوان الله تعالى عنهما.
وبحسب بعض الروايات، في هذا العام وقع الإسراء الذي بدأت السورة بذكره، ولعل حدَث الإسراء جرى – في جانب منه - كنوع من تقوية موقف النبي (ص) بعد إحساسه بفقد عماديه أبي طالب وخديجة، فجاء الإسراء ليَرى النبيُّ بعضاً من آيات الله سبحانه وتعالى، ومحلَّ الرسالات السابقة والمسجدَ الأقصى الذي صلى فيه عددٌ من الأنبياء (ع) من قبله، وهو قبلتُهم، وهو أيضاً القبلة التي توجّه إليها النبي (ص) والمؤمنون في صلاتهم في باديء الأمر، وليشهد عن قرب - ويعيش من واقع التجربة الميدانية - موطنَ تلك الرسالات، بما يُعطيه دفعةً روحية ومعنوية قوية نحو الاستمرار في الرسالة، وتحمّل تغيّر الظرف المحيط به، وليستقبل المرحلة الجديدة بزخَم كبير، وهي المرحلة السابقة على الهجرة من جهة، واللاحقة لفك الحصار في شِعب أبي طالب، والتي ستشهد نوعاً من الحرية في الدعوة، لاسيما مع وفود الحجاج والمعتمرين القادمين من أنحاء الجزيرة العربية، وقدوم أهل المدينة على وجه الخصوص، ودعوتهم إلى الإسلام، وما سينتج عن ذلك من افتتاح صفحة جديدة في تاريخ الرسالة المحمدية على صاحبها وآله آلاف التحية والسلام.
تخيل نفسك وأنت تسمع عن المسجد الأقصى - مثلاً - وتاريخه وفضله، وتتشوق لزيارته، وهذا المسجد في أجواء الاحتلال الإسرائيلي المانع من زيارته، ثم تتغير الظروف وتزوره بعد فك الاحتلال... كم ستكون تلك الزيارة ذات دلالة وتأثير معنوي في نفسك على الرغم من أنك شاهدت المسجد بالفيديو والصور من قبل، وعندك تصوُّر مسبق عن شكله ومكانه وطبيعته.
النبي (ص) عاش هذا التشوّق والارتباط الروحي والشعوري القوي مع المسجد الأقصى من خلال ما حكاه القرآن الكريم عن قصص وتجارب الأنبياء والرسل من قبله... ثم جاء الإسراء ليفتح له أفق التجربة الميدانية من خلال زيارة هذا المسجد الذي يمثّل عنواناً لتوحيد الله والعبودية له، ومركزاً من مراكز الصراع مع الشرك والباطل، وزيارة الأرض التي باركها الله من حول هذا المسجد، والتي عاش فيها عشرات الأنبياء (ع) من قبله، وخاضوا فيها تجاربهم الرسالية حتى وصلت الأمانة إليه ليكون خاتم النبيين.
والأرجح عندي أنه في هذا العام تم تنظيم الصلاة اليومية لتكون بهذه الصورة المقسمة زمنياً بحسب ما جاء في الآية من سورة الإسراء.
طبعاً هناك عدة آراء بخصوص متى فُرضت الصلاة، وهناك قول شائع بأنها فُرضت ضمن حادثة الإسراء، أي في السنة العاشرة من البعثة، ولربما فُهم هذا من بعض الروايات، ولكن برأيي أن هذا الكلام غير دقيق، وأن الأقرب للصحة هو أنه في هذا العام، وتزامناً مع حادثة الإسراء تم تنظيم الصلاة اليومية لتكون خمس صلوات مقسمة على اليوم الواحد بالصورة المذكورة في الآية الشريفة.
في الكافي عن زرارة قال: (سألت أبا جعفر (ع) عمّا فرض الله عزّ وجلّ من الصلاة؟ فقال: خمس صلوات في الليل والنهار، فقلت: هل سمّاهنّ الله وبينّهنّ في كتابه؟ قال: نعم، قال الله تعالى لنبيّه (ص): (أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ)، ودلوكُها: زوالُها، وفيما بين دلوك الشمس إلى غسق الليل أربع صلوات: سمّاهن الله وبينّهنّ ووقّتهنّ، وغسق الليل هو انتصافُه، ثمّ قال تبارك وتعالى : (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا)، فهذه الخامسة. وقال تبارك وتعالى في ذلك: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ) وطرفاه: المغرب والغداة) وهذه الفترة تشتمل على أربع صلوات هي الفجر والظهر والعصر والمغرب (وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ)، وهي صلاة العشاء الآخرة) ملاحظة: وهذه الآية برقم 114 من سورة هود، وقد نزلت هذه السورة بعد سورة الإسراء. (وقال تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ)) وهي برقم 238 من سورة البقرة، وهي مدنية ونازلة بعد الإسراء وهود (وهي صلاة الظهر، وهي أوّل صلاة صلاّها رسول الله (ص)، وهي وسط النهار، ووسط صلاتين بالنهار: صلاة الغداة وصلاة العصر).
وقَبل هذا التنظيم كان النبي (ص) والمؤمنون أيضاً برسالته يصلّون، ولكن الصلاة لم تكن منتظمة زمنياً في اليوم الواحد بهذا الشكل، ولذا نجد أن السور القرآنية الأولى تذكر الصلاة، مثل سورة الأعلى، والكوثر، والعلق، والقيامة وغيرها.
وعلى سبيل المثال، نجد في سورة المدثر، وهي لربما رابع سورة نزلت على النبي (ص) أن الله تعالى يقول: (كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ، إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ، فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ، عَنِ الْمُجْرِمِينَ، مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ) [المدثر:38-43]، فهل يصح أن يتحدث الله عن أهل جهنم بأنهم لا يصلّون، والمؤمنون في ذلك الوقت لا يصلّون؟ يعني كان من الممكن أن يحتج المشركون فيقولون للنبي: أنتم أيضاً لا تصلّون. ومن الممكن أن يستغرب المؤمنون هذا الوصف باعتبار أنهم لا يصلّون.
ونجد في كتاب (أُسد الغابة في معرفة الصحابة) لابن الأثير في أحوال جعفر بن أبي طالب: (أسلم بعد إسلام أخيه علي بقليل) ونحن نعرف أن علياً (ع) أوّل من آمن برسالة النبي (ص).... روي أن أبا طالب رأى النبي (ص) وعلياً (رض) يصليان، وعليٌّ عن يمينه، فقال لجعفر (رض): صِل جناحَ ابنِ عمِّك، وصَلّ عن يساره).
ومن غير المعقول أصلاً أن يبقى الناس عشر سنوات بلا صلاة، ويرون أن اليهود والنصارى والمجوس وكل أهل الملل مِن حولهم يُصلّون، وكلٌّ بطريقته، وحتى المشركون يصلّون لأصنامهم وآلهتهم الباطلة، ما عداهم، إيمان بلا عبادة! من الواضح أن هذا التصور غير سليم نهائياً.
ثم هل يُعقَل أن تبدأ الرسالة والدعوة إلى توحيد الله وعبادته، ولا صلاة ولا ارتباط عبادي واضح مع الله؟ أليست الصلاة هي رأس العبادات وعمود الدين؟
ونحن نعرف ما للصلاة من دور رئيس في التعبئة الروحية، التي كانت تَمُدّ الرسول (ص) بالإمداد الروحي، وبما كانت تمثّله من لذّة روحية يعيشها في ذاته، من خلال هذا اللقاء الروحي بالله سبحانه.. فتقرّ عينُه، ويرتاح قلبُه، وتصفو روحُه، وتتساقط المشاكل من حوله والضاغطة عليه في هذه الأجواء الإيمانية والعبادية الرحبة.
الصلاة هي القوة المتجددة ومدد الطاقة الفعال الذي يعيش معه الإنسان الحضور الإلهي في روحه وقلبه وفكرِه وحياته، فيزهَـرُ في داخله الأمل، وتتفايض في حياتِه ينابيعُ الخير،
وتنساب في مشاعره نبضات المحبة، وتتحرك في قلبه خفقات الرحمة، وتلتقي في خطوات حياته مواقع المسئولية.
فهل يمكن تصوّر حرمان النبي (ص) من تشريع الصلاة وعلى مدى عشر سنوات في أوج الدعوة والصراع الشديد مع طغاة قريش؟
(يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً، نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلا ثَقِيلاً، إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءًا وَأَقْوَمُ قِيلاً، إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلاً، وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً) [المزمل:1-8].
هذا القول الثقيل، هذه المسئولية العظيمة، بالإضافة إلى السبح الطويل خلال النهار عكس التيار، عكس كل مظاهر الشرك والكفر والانحراف والفساد والظلم المستشري. كل هذا يستوجب أن يكون هناك مدد روحي يتمثل في قيام الليل، وفي ترتيل القرآن، وفي ذكر الله عزوجل على طول الخط وبصورة مكثفة.
والصلاة هي بمثابة القطب منها، وهي بمثابة الوعاء أو الإطار الشامل لكل هذه العناوين، أي عناوين قيام الليل والذكر وتلاوة كتاب الله عزوجل.
وخلاصة الوقفة الأولى مع هذه الآية الشريفة من سورة الإسراء أن الأدلة ترجّح أن الصلاة كانت حاضرةً في حياة النبي (ص) والمؤمنين برسالته منذ بدء الدعوة في مكة المكرمة، إلا أنه مع نزول هذه الآية الشريفة تم تنظيم الصلاة اليومية وتقسيمها على أوقات اليوم، لتصبح خمس صلوات موزّعة ما بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر.
وستكون لنا بإذن الله تعالى وقفةٌ أخرى مع هذه الآية الشريفة فإلى لقاء، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.