حديث الجمعة: لماذا ؟ - الشيخ علي حسن


يقول البعض من باب الاستفهام، والبعض الآخر من باب الاستنكار: أن القرآن الكريم ذكر في عدة موارد أن الله سبحانه وتعالى استأصل بعض الأقوام حيث أنزل بهم العذاب في الدنيا كما في وصفه لما جرى لقوم النبي هود: (فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ) [الأعراف:72]، حيث يهلك الله تلك الأمم على اختلاف أعمار الناس، قال تعالى: (أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ) [طه:128]، ولم ينجُ من ذلك الاستئصال إلا فئة صغيرة، أو أفراد قلائل قد لا يتجاوزون عدد أصابع اليد الواحدة، قال سبحانه بشأن قوم النبي لوط: (فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ الْمُسْلِمِينَ) [الذاريات:35-36]... فهل يتوافق هذا مع العدل الإلهي؟
بل هل يتوافق هذا مع المبدأ الذي أقرّه القرآن حول المسئولية الفردية، وأن الإنسان لا يُؤاخَذ بما فعل آباؤه من قبله، ولا بما فعل الأبناء من بعده؟ قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47]، وقال سبحانه: (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [الأنعام:164]؟
ثم إن القرآن الكريم يتحدث عن أن المحاسبة إنما تكون في الآخرة التي هي دار الجزاء، أي أن هذه المحاسبة لا تكون إلا بعد انقضاء الحياة على الأرض، فكيف يعذّب الله الناس في هذه الحياة وقبل المحاسبة وبلوغ تلك الدار؟
ويضيف البعض إلى ذلك أن العقاب الجماعي يطرح العديد من الإشكاليات الأخلاقية، لأنه يبدو في ظاهره شكلاً من أشكال الثأر والانتقام والقتل الأكثر فتكاً ودموية، قال تعالى: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَانتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) [الروم:47]، ووصف النهايات الجماعية يتم دائماً بألفاظ عنيفة ترتبط بالموت والدمار والعذاب الشامل للكبار والصغار والشيوخ والنساء والأطفال، حيث يُردمون جميعاً أو يحترقون أو يُرمون بالبرَد أو الحجارة النارية، قال تعالى: (فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ، مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ) [هود:83-82]، وقال سبحانه بخصوص النبيين موسى وهارون: (فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا، وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا، وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا، وَكُلا ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا) [الفرقان:35-39]، إلى غير ذلك من المشاهد المتكررة في القرآن الكريم.
والجواب عن ذلك في نقاط:
1. يجب أن نستذكر حقيقة أن الأرض جزء من مملكة الله سبحانه: (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاء وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاء وَتُعِزُّ مَن تَشَاء وَتُذِلُّ مَن تَشَاء بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [آل عمران:26]، وقال تعالى: (لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى) [طه:6]، ومن حق المالك أن يدبّر أمر مملكته بما يحقق من خلاله الغاية من التملّك. ولنأخذ المثال التالي:
فلنفترض أنك تملّكتَ قطعة أرض كبيرة وبثمن باهظ، وبذلت جهداً كبيراً من أجل استصلاحها وتحويلها إلى أرض زراعية، ثم ذهبت إلى المشاتل واصطفيت من بين ما فيها، على تعددها وكثرتها، أفضل الشتلات المثمرة، وأنفقت مالاً كثيراً لشرائها، ثم بذلت المزيد من الجهد والعناية لزراعتها في تلك الأرض المستصلحة، وريّها وتسميدها والحفاظ عليها من الآفات الزراعية وغير ذلك، وانتظرت لسنوات إلى أن بدأت تثمر وتعطي محاصيل رائعة، وإذا بك تتفاجأ بانتشار آفة تنخر بمجموعة من الأشجار والثمار وتهلكها، فتسعى للمعالجة بكافة الوسائل دون فائدة حتى تستنفذ كل السبل، والآفة آخذرة بالانتشار بين الأشجار كالنار في الهشيم، ومن أجل إنقاذ الأشجار والثمار الصالحة تقوم باجتثاث وإحراق تلك الأشجار الموبوءة، بل لربما تهاجم الآفة كل الأشجار والثمار، وتضطر لاجتثاثها والتخلص منها لتزرع أشجاراً أخرى من جديد، فهل ستكون مُلاماً بذلك، أم يُعد تصرّفك متوافقاً مع الغاية التي من أجلها اشتريت الأرض بأغلى الأثمان، وبذلت في استصلاحها المال الكثير والجهد الكبير؟
فإذا كان الأمر مقبولاً بل ومستحسناً بحقك كمالك عرَضي، تملّكتها بالشراء والحيازة، فكيف لو كان مالك الأرض هو خالقها ومالكها الحقيقي وبالأصالة؟
مع العلم بأنه خلقها لغاية عظيمة، بأن يجعل عليها خليفة له هو الإنسان، والغاية من الاستخلاف أن يعمّرها هذا الإنسان بالخير والصلاح، وقد استغرق استصلاح الكرة الأرضية لتكون مهيئة لحياة الإنسان مليارات السنين، وليس سنتين أو ثلاثة، وخلق الإنسان على فطرة قويمة، وأعطاه - عندما خلقه – عقلاً مفكّراً مُبدعاً مميِّزاً بين الخير والشر، وأرسل إليه رسله مبشرين ومنذرين، وأنزل معهم الكتب، فبذلوا في طريق إصلاح الناس كل السبل، وقدّموا هم - ومَن أعانهم في هذا الطريق - التضحيات الجسيمة على مستوى الأنفس والأهل والأمن والراحة والمال، فهل يحق للإنسان بعد هذا أن يعيد استصلاح مملكته المتمثلة في تلك الأرض الزراعية، ولو بإجراء قاسي، ولا يحق للمالك الخالق ورب الأرباب أن يقوم بذلك؟
2. لم يكن الله ليهلك الأمم التي أهلكها إلا بعد طغيانها واستكبارها وعتوّها وإصراراها على مديات زمنية بعيدة، وبعد إقامة الحجة الكاملة عليها، وبعد استنفاذ كل سبل الإصلاح والهداية، على أن تكون تلك الحجج متمثلة في رسول أو أكثر يواجه بشكل مباشر ويدعو ويحاور، ويبذل كل جهده، ويقيم الأدلة، ولربما يلجأ إلى الآيات - التي نطلق عليها عنوان المعاجز – وبعد التحذير والإنذار من قرب وقوع الكارثة، والاستمرار إلى اللحظات الأخيرة في دعوة الناس إلى التوبة، كل ذلك من أجل خير الناس ومن أجل هدايتهم وصلاح البشرية ككل. قال تعالى: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء:15]، وقال في قصة نوح (ع): (قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَارًا، فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلاَّ فِرَارًا، وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا، ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا، ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا، فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا، مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا، وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا، أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا، وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا، وَاللَّهُ أَنبَتَكُم مِّنَ الأَرْضِ نَبَاتًا، ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ بِسَاطًا، لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجًا، قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَارًا، وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا) لينتهي المشهد كالتالي: (وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا، إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا) [نوح:5-27].
3. استعمال مصطلح الانتقام في بعض هذه الموارد لا يأتي من باب التشفي والثأر كالذي ينطلق فيه الإنسان من معاناة وآلام نفسية ورغبة في استرداد الكرامة أو إرضاء النفس أو ما شابه ذلك، ومن هنا نجد أن الله سبحانه أزاح العذاب عن قوم يونس في اللحظات الأخيرة بعد أن أوشكوا على الهلكة، وما ذاك إلا حين حققوا الطرف الخاص من المعادلة المطلوبة، وهو التوبة: (فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ) [يونس:98].
والذي يؤكد هذه الفكرة أن الله لم يعاقب تلك الأمم على كفرها الفكري أو شركها فقط، وإن استحقت بذلك العقوبة، ولكننا نجد أنها كانت مع كفرها أو شركها ظالمة فاسدة باغية، وهذا ما بيّنته الآيات القرآنية في قصص الأمم المهلَكة، حيث يُنهون عن البخس في المكيال والميزان، أو ارتكاب الفواحش، أو القتل والاستضعاف والاستحياء، أو الاستكبار والإسراف في المعاصي وأمثال ذلك. ويمكنك أن تمر على قصص الأنبياء في سورة الشعراء مثلاً لتجد هذه الصورة واضحة.
4. لم يأخذ الله الصالحين بجريرة الفاسدين في مثل هذه الحالات التي يُنزل فيها العذاب كي يقال بأن هذا الأمر يخالف قاعدة المسئولية الفردية، وأنه لا تزر وازرة وزر أخرى، وهذا ما أكدته آيات قرآنية كثيرة ترتبط بقصة نوح وإبراهيم ولوط وموسى وغيرهم (ع).
وأما الاحتجاج على موت الأطفال والمجانين وغيرهم ضمن هذا العذاب النازل فهو قائم على نسيان أو عدم الإيمان بأن هذه الدنيا ليست سوى محطة قصيرة الزمن جداً وحياة مؤقتة، في مقابل حياة حقيقية ومديدة في الآخرة لا يُعاقَب فيها غير المكلفين كالأطفال وفاقدي العقول ومن لم تقم عليهم الحجة وأمثالهم، وعليه فإن موتهم في هذه الحياة لا يعني نهاية المطاف بالنسبة إليهم، بل نستطيع أن نقول أن الأمر بالنسبة إليهم خير حيث يُنقلون إلى رحمة الله في الآخرة، ولا يخوضون تجربة لربما يفشلون فيها كما فشل أهلُهم فيها من قبل.
أكتفي بهذا المقدار مراعاة للوقت مع التنبيه إلى أن القاعدة في المسألة عند الله تعالى هي التالي:
أوّلاً: (وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً) [الإسراء:15].
ثانياً: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ) [يوسف:110].
ثالثاً: (وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ) [هود:117].
رابعاً: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاء وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [الأعراف:96].
خامساً: (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) [غافر:39].