حديث الجمعة 3 شعبان1441: الشيخ علي حسن : الله يحرقهم


- في أثناء تحضيري للمحاضرات التاريخية لشهر رمضان حول النبي إبراهيم (ع)، استوقفتني هذه الآية الشريفة: (يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ، إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ) [هود:74-75].
- بالطبع هذه الآية ترتبط بإنزال العذاب الإلهي على قوم لوط (ع)، حيث أرسل الله (عز وجل) عدداً من الملائكة لأمرين، الأول لتبشير إبراهيم وزوجته سارة بأنهما سيرزقان بمولود على الرغم من كبر سنهما، ولإعلام إبراهيم بما سينزل من العذاب على قوم لوط.
- هنا يتدخل النبي إبراهيم (ع) في حديثه مع الملائكة – ولعله في مناجاته مع الله أيضاً - في محاولة منه لرفع هذا العذاب، أو تأجيله على الأقل بإعطاء قوم لوط المزيد من الوقت لعلهم يرتدعون ويهتدون.
- لذا وَصف الله (تعالى) إبراهيم بأنه (أواه) أي كثير التأوه، بمعنى أنه صاحب حس مرهف، إسحاس راقي، يتألم لآلام الآخرين، يتفاعل مع أحاسيسهم وحاجاتهم. وهذا ثناء إلهي عليه.
- ووصفه (تعالى) بأنه (حليم) أي لا يبادر إلى إنزال العقوبة بالآخرين ولا يبادر بالانتقام، عنده ضبط للنفس في أفعاله وفي ردود فعله.
- الصفة الثالثة التي وصف بها هنا أنه (منيب) أي كثير الرجوع إلى الله في كل أموره... فهو عندما جادل في هذا الموقف، لم يكن جداله اعتراضاً على الإرادة الإلهية، ولكنه يتشفّع ويتوسّل ويرجو، في ما لم يعلم فيه حتميّة القضاء والإرادة.
- تحدث القرآن عن قوم لوط في أفعالهم كالتالي: (وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ، إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ) [الأعراف:80-81] أي في الذنوب كماً وكيفاً.
- وفي آية أخرى: (أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) [العنكبوت:29].
- وفي آية ثالثة: (كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ) [الشعراء:160].
- إذاً هم بهذا المستوى من السوء، ومع هذا نجد قلب إبراهيم (ع) يخفق رحمة بهم.
- الآن انظر إلى المتديّنين اليوم، تجد قسماً كبيراً منهم ععندهم مشاعر حادة تجاه سائر الناس ممن لا يلتقون معهم، في الدين أو المذهب أو الذين يرتكبون المعاصي، فيتمنون هلاكهم وموتهم والقضاء عليهم بصورة أو بأخرى... الله يحرقهم.. الله يهلكهم.. الله يفكنا منهم!
- أولاً، لو أن الله أراد إهلاكهم أو عدم خروجهم إلى الحياة أصلاً لفعل، والله ليس بانتظارنا كي نقرر مصيرهم.
- ثانياً، الله (عز وجل) هو أعلم بحال هؤلاء الناس، وبمصيرهم، وما هي الحكمة من خلقهم ومن بقائهم في الوجود... هذه إرادته، وهو الذي يحيي ويميت، فما شأننا نحن ومسألة حياتهم وإهلاكهم؟
- ثالثاً، الله يخرج الحي من الميت... لربما يأتي زمان وتجد أن من بين العصاة أو غير المؤمنين بدينك قد خرجت ذرية مؤمنة صالحة.
- رابعاً، اجتهد أنت الذي تدعو عليهم - بالموت والفناء وإهلاكهم بالكورونا وغيرها - اجتهد لإصلاح الفاسد مهم، ولهدايتهم إن كنت من المهتدين.. نعم الأسهل بالنسبة إليك أن تجلس تحت المكيف وتدعو أن يهلكهم الله، ولكن سنة في الوجود والحياة لا تكون بهذه الصورة.
- خامساً، فلنراجع أنفسنا وأخطاءنا ولننشغل بعيوبنا بدلاً من أن ندعو على الآخرين بالهلاك.
- سادساً، انظروا كيف أثنى الله على إبراهيم لأن قلبه تمنى حياة هؤلاء وإعطائهم الفرصة بعبهم يهتدون على الرغم من مفاسدهم وانحرافاتهم.... هكذا يريدنا الله أن نكون.
- قد يقول قائل، ولكن نوحاً قال: (وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا) [نوح:26]، فنحن في دعواتنا عليهم بالإهلاك نقتدي به ونهتدي بفعله.
- والجواب عن ذلك في نقاط:
1. تجربتنا حتماً ليست كتجربة نوح (ع) في السعي للهداية على مدى السنوات الطويلة والطرق المختلفة التي جرّبها معهم.
2. ما دعى عليهم بالإهلاك إلا بعد استنفاذ كل الوسائل، وبحيث أن بقاءهم سيكون – بحسب تقديره كالتالي: (إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِرًا كَفَّارًا) [نوح:27].
3. لم يُثن الله على نوح بالصفات التي أثنى بها على إبراهيم.. الأنبياء ليسوا نسخاً متشابهة وكأن المسألة هي نسخ ولصق.. لكل منهم شخصيته وصفاته.. لكل منهم ما يمتاز به عن الآخرين.. هذه هي الطبيعة البشرية فيهم.
- في السابق كنت أستغرب بعض الروايات التي تتحدث عن أن الحسن (ع) ورث من النبي الهيبة والحِلم، والحسين الشجاعة والجود، أو شيئاً من هذا القبيل، ولكن يبدو أن المسألة معقولة.
- لأن الناس، بمن فيهم الأنبياء والأئمة (ع) ليسوا نسخاً متشابهة وفي قالب واحد.
- وبالتالي لعل نوحاً – وأقول لعل - لم يكن يتصف بصفة الأوّاه التي اتصف بها إبراهيم.
- رابعاً، فلنتذكر قوله: (وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) [هود:45]. فعندما وصل دور الإهلاك لابنه أخذته العاطفة الجياشة، فدعا الله أن ينجيه وأن يضمه إلى سفينته، وهو يعلم أن ابنه كان كافراً معانداً، فنهاه الله عن هذا الطلب وبيّن له أن لا تمييز بين المهلَكين.
- ما يهمنا هنا أن نعرف أن الله أثنى على هذا الحس المرهف عند إبراهيم، وهذا الحِلم، وهكذا ينبغي أن نكون... ولعل هذه الأيام التي تشترك فيها كل البشرية في محنة واحدة شديدة تجعلنا نعيش شيئاً من الرحمة تجاه الإنسانية ككل، وندعو الله أن يزيل هذه الغمة عاجلاً.