خطبة الجمعة 4 رجب 1441: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: في مواجهة الكورونا

- تساءلت في الخطبة الأولى عن أسباب الفارق الكبير في نِسب الخسائر البشرية بين ما كانت تخلّفه الأوبئة في الماضي، وبين تلك المسجّلة في هذا العصر. ويمكن أن نعيد أهم الأسباب إلى:
1. التطور العلمي الكبير الذي حدث باكتشاف أسباب الأمراض المعدية وطرق انتشارها.
2. الإمكانات العلمية والطبية المتطورة في التشخيص والمتابعة والعلاج.
3. القرارات والتنسيق العالمي بين الجهات الرسمية والتطوّعية المختلفة بشأن الإجراءات اللازمة للحد من انتشار مثل هذه الأمراض المعدية.
4. وسائل الإعلام والاتصال السريعة التي باتت تخدم في اتجاه الإجراءات الوقائية والعلاجية.
5. انتشار الثقافة الصحية حول أهمية الإجراءات الوقائية والالتزام بها.
- وحيث أن الإنسان – بفضل الله (سبحانه وتعالى) – استطاع إلى حدٍّ كبير أن يقاوم الأوبئة، ولكن ضمن إجراءات معيّنة، لذا فإنّ مسئوليتنا الإنسانية والأخلاقية والشرعية تفرض علينا:
1. الالتزام بالتعليمات والإجراءات التي تفرضها الجهات الصحية المسئولة في البلد.
- وفي الوقت الذي لا يحتاج فيه الإنسان إلى أن يعود إلى فتوى شرعية بهذا الخصوص، وأن يكون التزامه هذا نابعاً من حكم العقل، وتوجيه الضمير الإنساني والأخلاقي، واحترام القانون الذي يستهدف المصلحة العامة، إلا أن البعض يَبقى متطلعاً إلى البُعد الشرعي في المسألة.
- وتماشياً مع تطلّع هذه الفئة، فقد استفتيت بنفسي عدداً من المرجعيات الدينية كالتالي: (في ظل انتشار مرض كورونا المعدي، هل يجوز لمن يحتمل أن يكون مصاباً بالمرض أن يخرج من الحَجر الصحي المفروض عليه من قبل الجهات الصحية المعنية؟ وهل يكون مأثوماً بذلك؟ ولو تبيّن أنه مصاب ونقل العدوى وأدى ذلك إلى وفاة المنقول إلأيه، هل يتحمل مسئولية شرعية؟).
- وتنوعت الإجابات ما بين عدم جواز مخالفة الأنظمة الصحية، وترتّب الإثم، وتحمّل المسئولية الشرعية في حالة المخالفة، بل في إحدى الاستفتاءات أنه في حال تعمد نقل العدوى وموت المنتقل إليه ولو بعد مدة من الزمن مع التفات الناقل إلى كون النقل موجباً للموت عادةً،
جاز لولي الميت القصاص من الناقل، وأما مع الجهل أو الغفلة فعلية الدية والكفارة.
2. عدم المساهمة في إثارة الهلع والخوف بين الناس، بأي نحو، ولو بإعادة نشر ما يصلنا عبر وسائل التواصل... وفي المقابل أيضاً عدم التسبب في الدعوة إلى حالة من اللامبالاة وإهمال أو التمرد على التعليمات الصحية والوقائية التي تفرضها أو تدعو إليها الجهات المسئولة.
- فالمطلوب أن نكون معتدلين ومتّزنين وعقلانيين في التعامل مع الأمور، ومن بينها هذا الوضع الحساس، فكما أن (الفقيه كلّ الفقيه) بحسب ما روي عن أمير المؤمنين (ع): (مَن لم يُقنط الناس مِن رحمة الله، ولم يُؤيسْهُم مِن رَوحِ الله، ولم يُؤمِنْهم مِن مكر الله).. فكذلك ينبغي أن نكون بعيدين عن المبالغة في التخويف، وكذلك بعيدين عن الإنكار واللامبالاة.
3. قد يستدعي الأمر – مؤقتاً - تجنّب الذهاب أو السفر إلى بعض الأماكن التي ظهر فيها المرض، ولو كانت هذه الأماكن ذات طابع ديني، والغرض عبادي مستحب، خاصة مع وفود الناس إليها من بلدان متعددة، وصعوبة اتخاذ الإجراءات الوقائية اللازمة، سواء أكان الأمر
مرتبطاً بالعمرة، أو زيارة المراقد المقدسة، أو غير ذلك.
- فعمل المستحب بالعنوان الأوّلي قد يتحوّل إلى أمر منهي عنه بعنوان ثانوي. يجب تفهّم هذا الأمر، وإدراك أبعادِه، والتعامل معه بعيداً عن الإثارة والضرب على الوتر العاطفي عند الناس.
- وكذلك، فيما لو تمّ اتخاذ إجراءات معيّنة بخصوص حضور المساجد، والالتزام ببعض التعليمات عند الدخول أو الخروج، فلابد من التعاون بهذا الخصوص.
- ومن بين ذلك أن الإخوة الذين سافروا أو تواجدوا في أماكن تَبيّن انتشار المرض فيها، مِن مسئوليتهم أن يتجنّبوا الاختلاط بالآخرين - بما في ذلك المساجد - حتى تتبيّن سلامتهم، فاستحباب الصلاة في المساجد لا يعني التهاون بتعريض الآخرين إلى ما قد يُلحق الضرر بهم.
- وأدعو هنا – ابتداء من اليوم – إلى اتخاذ إجراء احترازي بخصوص المعانقة والتقبيل وحتى المصافحة، دون إحراج أو عتب.
4. عدم إقحام الروايات في بيان تكليف الناس في مثل هذه الأمور، فهذه مسألة صحية طبية فما علاقة الروايات بها؟ يأتي بعضهم ويروي أن النبي (ص) قال: (الفرارُ من الطاعون كالفرار من الزحف) أي أنه من الذنوب الكبيرة، كما أن الفرار في الحرب كذلك. والجواب عن ذلك أوّلاً:
أ) على فرض صحة الرواية، فقد تكون مناسبة للإمكانات الصحية والطبية والوقائية والعلاجية التي كانت متوفرة في ذلك اليوم، فكيف نستشهد بها اليوم مع تبدّل كل هذه المعطيات؟
ب) قد تكون صادرة خوفاً من نشر المرض المعدي في بيئات سليمة، والهدف هو السيطرة على المرض وتقليل الخسائر البشرية ما أمكن.
ج) قد تكون صادرة في ظرف معيّن حتّم صدور مثل هذا الكلام عن النبي (ص)، وبالفعل فإن المسألة من هذا القبيل، ففي معاني الأخبار للصدوق أن الإمام الكاظم (ص) سئل: (عن الطاعون يقع في بلدة وأنا فيها، أتحوّل عنها؟ قال: نعم. قال: ففي القرية وأنا فيها، أتحوّل عنها؟ قال: نعم، قلت: ففي الدار وأنا فيها، أتحوّل عنها؟ قال: نعم. قلت: فإنا نتحدث أن رسول الله (ص) قال: الفرار من الطاعون كالفرار من الزحف. قال: إن رسول الله (ص) إنما قال: هذا في قوم كانوا يكونون في الثغور في نحو العدو فيقع الطاعون فيُخلون أماكنهم يفرّون منها، فقال رسول الله (ص) ذلك فيهم) أي أنه نهاهم عن ذلك إلى أن يتخذ التدبير المناسب للظرف.
د) هناك بيان واضح في القرآن الكريم، وهو بمثابة القاعدة التي لم يختلف عليها المسلمون: (وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة:195]، وإذا ضممنا إليها الحديث النبوي المتفق عليه: (لا ضرر ولا ضرار) فإن الإنسان يستطيع أن يعرف مسئوليته الشرعية الأوّلية.
هـ) مقولة أن هذا مسجد وذاك حرم وتلك الكعبة، وهي بيوت الله ولن يمسّها الوباء، ولا داعي لأن يأخذ الإنسان احتياطاته عند الذهاب إليها كلامٌ لا أساس له من الصحة، ولو كان كذلك لما ضُربت الكعبة بالمنجنيق وتهدَّمت بعضُ أركانها واحترقت، وقد روى الشيخ الصدوق: (إذا وقع الطاعون في أهل مسجد فليس لهم أن يفرّوا منه إلى غيره) خوفاً من نشره.
5. عند الابتلاء والإحساس بالضعف، يزداد إقبال الإنسان المؤمن على الله (سبحانه) والرجوع إليه واستمداد القوة منه، وهو القائل: (وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ، الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ، أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) [البقرة:155-157].
- وأدعوكم إلى قراءة الدعاء الثالث والعشرين من الصحيفة السجادية تحت عنوان (وَكانَ من دُعائِهِ (ع) إذا سأل الله العافيةَ وَشُكرها)، وأوله: (اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَأَلْبِسْنِي عَافِيَتَكَ، وَجَلِّلْنِي عَـافِيَتَكَ، وَحَصِّنِّي بِعَـافِيَتِـكَ، وَأكْـرِمْنِي بِعَافِيَتِكَ، وَأغْنِنِي بِعَافِيَتِكَ، وَتَصَدَّقْ عَلَيَّ بِعَافِيَتِكَ، وَهَبْ لِي عَافِيَتَكَ، وَأَفْرِشْنِي عَافِيَتَكَ، وَأَصْلِحْ لِي عَافِيَتَكَ، وَلا تُفَرِّقْ بَيْنِي وَبَيْنَ عَافِيَتِكَ فِي الدُّنْيَا وَالاخِرَةِ. اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّد وَآلِهِ، وَعَافِنِي عَافِيَةً كَافِيَةً شَافِيَةً عَالِيَةً نَامِيةً، عَافِيَةً تُوَلِّدُ فِي بَدَنِي الْعَافِيَةَ، عَافِيَةَ الدُّنْيَا والاخِرَةِ، وَامْنُنْ عَلَيَّ بِالصِّحَّةِ وَالامْنِ وَالسَّلاَمَةِ فِي دِيْنِي وَبَـدَنِي...).
- تفشّي فيروس كورونا المتجدِّد وإن لم يتم الإعلان - حتى هذه الساعة - عن تحوّله إلى
وباء من قبل منظمة الصحة العالمية إلا أنه بات يبثّ الذعر في العالم، حيث تزداد أعداد المصابين به والدول التي تعلن عن تسجيل إصابات فيها، وتتسارع حالات الوفاة بين المصابين به. وعلينا أن نتعامل بمسئولية مع هذا الأمر، على مستوى الالتزام بالتعليمات الصادرة عن الجهات المعنية، وبما يخصّ تصرّفاتنا وأنشطتنا وما نبثّه على وسائل التواصل الاجتماعي، ونبتعد عن التهويل وإثارة الذعر من جهة، كما لا نكون لا أباليين في ما يصدر عنّا من تصرفات وأقوال من جهة أخرى. فلنتحمّل مسئولياتنا تجاه أنفسنا وتجاه الآخرين، ولنبتهل إلى الله بقلوب خاشعة وجوارح خاضعة أن يزيل هذه الغمّة عاجلاً غير آجل إنه سميع مجيب.