خطبة الجمعة 27 جمادى الآخرة 1441: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: لو دامت لغيرك ما اتصلت إليك


- الغاية من الحِكم – عادة – هو تقديم النصيحة العملية الإيجابية المستخلَصة مِن خلال خبرات الحياة وتجاربها.
وفي كتاب (الذهب المسبوك في وعظ الملوك) لمحمد بن أبي نصر الحَميدي: (أن رجلاً كان ينادي على بعض أبواب الملوك: مَن يشتري مني ثلاث كلمات باثني عشر ألف درهم! فكان مَن يسمعه يعجب منه، حتى بلَغ ملِكاً منهم خبرُه، فدعا به وسأل عن الكلمات فقال: أحضِر المال. فأحضره) وبعد أن قدّم له ثلاث حِكم قال الملك: (قد أحسنت، فخذ المال. قال: لا حاجة لي فيه، إنما أردت أن أعلم هل بقي أحد يطلب الحكمة).
- فهو لم يُرِد أن يقدّمها لأي أحد، بل لمن يقدّرها... هكذا تكون قيمة الحِكمة الصحيحة والنافعة لمن يعرف أهميتها، ولنتذكر أن الحكمة واحدة من غايات إرسال الرسل: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) [الجمعة:2].
- واحدة من الحِكم الجميلة والمؤثرة عبارة: (لو دامت لغيرك ما اتصلت إليك)، وقد اختُلف في قائلها، هل هو عمرو بن عُبيد المعتزلي، أم عبدالرحمن الأوزاعي، وكلاهما عاصرا أبا جعفر المنصور، أم أحمد ابن الخليفة هارون العباسي، أم غيرهم.
- المهم في الأمر أن هذه الحكمة تطلب من صاحب أي منصب – ولو كان رئيس قسم - أن يتمعّن في حال مَن سبقه، فمنهم مَن عُزل لسبب أو من دون سبب، ومنهم مَن تقاعد عن العمل بحُكم السن، ومنهم مَن فارق الحياة مخلّفاً المنصب وراءه، ومنهم، ومنهم... هذه هي دورة الحياة.
- الفهم السليم لهذه الحكمة أنها تُذكِّر الإنسان - الذي يؤمن بالآخرة والجنة والنار - بالموت، ثم بالحساب والثواب والعقاب، ولذا فهي تدعوه إلى أن يُحسن التصرّف فيما جعل الله (عز وجل) تحت يديه من مسئولية، ومن مال عام، حتى إذا وقف بين يدي الله لاقاه بوجه أبيض.
- ولعل إيمان المسئولين في البلاد - كباراً وصغاراً - قبل عقود بمضمون هذه الحكمة هو الذي
دفعهم للعمل بجدٍّ من أجل الوطن، لا من أجل مصالحهم، وهو ما حقَّق للكويت ازدهارها السريع.
- ولكن يبدو أن بعض المسئولين اليوم يفهمون هذه الحكمة بصورة معكوسة... فإنّ الموقع الذي يشغلونه مِن وزارة أو هيئة أو إدارة.. إلخ، والأموال العامة التي تحت تصرّفهم قابلة لأن تنتقل منهم إلى أشخاص آخرين، ولذا فإنّ عليهم أن يستغلوا الفرصة ويسارعوا لنهب ما أمكن نهبُه!
- وإذا أضافوا إلى الفهم المعكوس للحكمة السابقة الحكمة القائلة: (دوام الحال مِن المحال) ازداد نهَمُهم للاختلاس والسرقة من المال العام! فالموقع الذي يشغلونه عبارة عن مَرعى مؤقّت فحسب، ومتى ما استَنفذوا الغرض منه تحوّلوا إلى غيره!
- جاء في عهد الإمام علي (ع) لمالك الأشتر وهو يتحدث عن الموازنة ما بين فرض الضرائب على المواطنين في قبال التنمية في الوطن، تنبيهٌ لضرورة أن ينصبّ اهتمام المسئولين في المقام الأول على التنمية، بلحاظ أنها تُحقِّق أكثر من نتيجة إيجابية، من بينها القوة الاقتصادية، وزيادة اللُّحمة بين المواطن والدولة، واندفاع المواطنين عن طيب خاطر للمساهمة في تحسين وضع الاقتصاد الوطني عند الحاجة، ثم ختم هذه الفقرة بقوله: (وَإِنَّمَا يُؤْتَى خَرَابُ الأرْضِ مِنْ إِعْوَازِ أَهْلِهَا) إذا عمّ الفقر انهار الاقتصاد الوطني، ولكن لماذا قد يعم الفقر؟ (وإِنَّمَا يُعْوِزُ أَهْلُهَا لإِشْرَافِ أَنْفُسِ الْوُلاَةِ عَلَى الْجَمْعِ) هذا مبلغ همِّهم (وَسُوءِ ظَنِّهِمْ بِالْبَقَاءِ، وَقِلَّةِ انْتِفَاعِهِمْ بِالْعِبَرِ).
- لا شك أن كل مواطن غيور وحريص على مستقبل الوطن ومستقبل الأجيال القادمة سيكون قلِقاً من هذا النمط من التفكير عند هؤلاء المسئولين.
- خاصة عندما يجد هذا المواطن أن القضاء – أحياناً - لا يُصدر أحكاماً رادعة بحق سرّاق المال العام، أو أنّ الأموال المنهوبة لا تُستَرجَع، ومن المعلوم أنّ مَن أمِن العقوبة أساء الأدب، بل وشجّع الآخرين على الإساءة أيضاً.
- وأنا لا أريد هنا أن أقيّم الأحكام القضائية لعدم علمي بحيثياتها، ولكن الصورة الظاهرية للأحكام
لا تبعث برسائل مطمئنة إلى المواطنين، وهذا الأمر يحتاج إلى معالجة.
- علاوة على ما سبق، فإنّ تعاقب التقارير والأحاديث الاقتصادية التي تُنذر بخلل اقتصادي كبير سيتعرّض له البلد خلال السنوات القادمة إنْ بقيت السياسات الاقتصادية في الموارد والإنفاقات على ما هي عليه، يمثّل عاملاً آخر يرفع من منسوب القلق لدى المواطنين.
- قبل ثلاثة أسابيع تقريباً، وعقب زيارة رسمية للبلاد من قبل بعثة خبراء صندوق النقد الدولي، أصدر الصندوق تقريره بخصوص وضع الاقتصاد الكويتي، ومما جاء فيه أن: (الزيادة الأخيرة في الإنفاق ‬‬أدت لتفاقم الوضع المالي... وفي غياب تصحيح للمسار، فإن التحديات المالية والتمويلية ستشتد... وتوقع الصندوق أن يتحول رصيد الموازنة العامة من فائض قدره 5.5 % من الناتج المحلي الإجمالي في 2019 إلى عجز بنفس القيمة بحلول 2025، مما سينجم عنه احتياجات تمويلية بقيمة نحو 180 مليار دولار على مدى السنوات الست المقبلة... ومن المتوقع استنفاد أصول صندوق الاحتياطي العام المتاحة بسهولة في أقل من عامين).
- فهل يمكن لمثل هذا التقرير أن يبعث برسائل اطمئنان للمواطنين؟
- إننا وحيث نحتفل هذه الأيام بالأعياد الوطنية، بحاجة إلى نوصل رسالة إلى كل مسئول في هذا البلد – في السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية - بأنه (لو دامت لغيرك ما اتصلت إليك) لا بالمفهوم المغلوط لهذه الحكمة والذي يتمثّل في الاندفاع للنهب والاختلاس من المال العام قبل فوات الأوان وحلب امتيازات المنصب ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً، بل بمعنى القيام بالمسئوليات المناطة بهم على أحسن وجه بما يعود على الوطن والمواطنين بالمنفعة، وأن يتذكروا قول الله (عز وجل): (وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ)، وقول رسوله (ص): (لا تَزولُ قَدَمَا عبدٍ يومَ القيامةِ حتَّى يُسألَ عن أربعٍ) وواحدة منها: (وعن مالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وفيما أنفقَهُ).