خطبة الجمعة 6 جمادى الآخرة 1441: الشيخ علي حسن : الخطبة الثانية: صفعة القرن

- (يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَارَىٰ أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ، فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى ٱللَّهُ أَن يَأْتِيَ بِٱلْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَىٰ مَآ أَسَرُّواْ فِيۤ أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ، وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَهُـۤؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ).
- واجه المؤمنون في المدينة المنورة حالة من الصراع المستمر مع المشركين بُعيد الهجرة النبوية بقليل، وكان هذا الصراع وجودياً، أي أن تكون أو لا تكون، لأن المشركين لم يكن ليرضوا بغير القضاء على الإسلام والنبي (ص) ودولته الفتيّة.
- وكانت غزوة بدر بمثابة المفاجأة الكبرى في نتيجتها، ولذا لم يخرج كثيرون مع النبي، ولمّا أرسل النبي (ص) زيدَ بن حارثة وعبدَ الله بن رواحة إلى المدينة ليُبشِّرا أهلها بالنصر، لم يُصدَّقا.
- في المغازي: (وقدم زيد بن حارثة على ناقة النبي (ص) القصواء يُبشّر أهلَ المدينة، فلمّا جاء المصلّى صاح على راحلته) وصار يُبشّر الناس بالنصر ويذكر أسماء القتلى (فجعل الناس لا يُصدّقون زيدَ بن حارثة، ويقولون: ما جاء زيد إلا فلاًّ... وقال رجلٌ من المنافقين لأبي لبابة بن عبد المنذر: قد تفرّق أصحابُكم تفرّقاً لا يجتمعون منه أبداً، وقد قُتل عِليةُ أصحابِه وقُتل محمد، هذه ناقتُه نعرفُها، وهذا زيد لا يدري ما يقول مِن الرعب، وجاء فلاًّ).
- هذا النصر الكبير كان بمثابة دفعة قوية نحو تصديق الوعد الإلهي.
- ولكن لمّا وقعت الهزيمة في غزوة أحُد، عاد هاجس الخوف من جديد ليغزو قلوب أولئك الذين لم يستحكم الإيمانُ في قلوبهم، ولم يملكوا الوعيَ والبصيرة
الكافية لكي يُدرِكوا سُننَ الله في صراع الحق والباطل. ويجب أن نلتفت إلى أن الآيات لا تتحدث عن المنافقين، بل عن ضعاف الإيمان.
- قال تعالى في وصف هذه الفئة عقيب هزيمة يوم أحد: (وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ) [آل عمران:154].
- وتكرَّر الأمر حين شاهدت هذه الفئة جيشَ الأحزاب: (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا، وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا، وَإِذْ قَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا) [الأحزاب:10-13].
- لدى الذين في قلوبهم مرض خوف دائم من أن يأتي اليوم الذي تتمكن فيه قريش من القضاء على النبي ومَن معه، ولذا كانت تتحدّث عن أنها وقعت ضحية الخداع والاغترار بكلام النبي، وتبحث عن السبل الكفيلة بضمان سلامتها من هذا المصير الذي كان يُرعبها عند كل مواجهة.
- وواحدة من تلك السبل التي كانت هذه الفئة تتصور أن بإمكانها أن تُنقذها من بطش قريش وحلفائها هو تكوين نوع من الولاء والتحالف مع اليهود أو النصارى، بلحاظ ما لليهود من حصون منيعة وأموال ضخمة وتحالفات مع قريش وغيرها، وأن للنصارى امتداداً في كل نواحي الجزيرة العربية، وعلاقات خاصة مع الروم ونصارى الشام والعراق.
- هذه الفئة فضّلت ولاءَ الإنسان على ولاء الله، ولذا سارعت في اتجاه إعلان الولاء لليهود والنصارى ولو بتقديم التنازلات، أو دفع الأموال، أو خيانة الله ورسوله: (فَتَرَى ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ) أي في اليهود والنصارى (يَقُولُونَ نَخْشَىٰ أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ) نخاف من أن يأتي اليوم الذي تكون فيه الغلبة لأعداء الإسلام من المشركين وأهل الكتاب، وبصورة ماحقة.
- لقد جاء مثل هذا الموقف منهم في الوقت الذي نسوا فيه أن اليهود والنصارى لا يُكنّون لهم حُباً ولا يريدون بهم الخير... ولو حانت ساعة المواجهة فإنّ عنوان الموقف هو الخذلان لا غير.
- (وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ أَهُـۤؤُلاۤءِ ٱلَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ)؟ هل كان هذا هو الخيار الصحيح؟ هل صدّقتم وعودَهم وأيمانَهم؟ (حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ).
- وإذا كانت الآية الشريفة تتحدث عن حقيقة أن الرهان على ولاء اليهود والنصارى في تلك المواقف رِهانٌ خاسر، فإنّ الرِّهانَ اليوم على الصهيونية رهانٌ خاسرٌ أيضاً، مهما حاولت الصهيونية بوجوهها المتعددة أن تُظهِر شيئاً مِن المحبة، وأن تتحدث عن رغبتها في تحقيق السلام وجلب الخير والرخاء للمِنطَقة. الحقيقة التي يجب أن نراها رؤيا العين هي أن الصهيونية المتمثّلة في كيانها الغاصب، وفي سائر الشخصيات والقِوى والمؤسسات العالمية، هذه الصهيونية لا تُكِنّ للعرب والمسلمين أيةَ مودّة، ولا يمكن لها أن تكون حليفاً حقيقياً لهم، لأن عقيدتَها العنصرية تقوم على الاستعلاء في الأرض بالقوة والحيلة، وعلى تسخير الأغيار بعد السيطرة على مقدّراتِهم ومحوِ هويّتِهم وإضعاف كينونتِهم. ويأتي الإعلانُ الأخير عن صفقةِ القرن، ليُعرّي الحقيقة ويفرِزَ الساحةَ من جديد... أما المتصهينون وضعافُ الإيمان فإنهم يُسارعون في قبولها متعذّرين بخشيتهم مِن أنْ تُصيبَهم الدائرة إنْ وقفوا موقف المعارضة، أو أنْ تفوتَهم الفرصة التي قد لا تتكرر.. وأما الذين آمنوا بالقضية ولم يُلبِسوا إيمانَهم بظلم فلا يكفي أن يسكتوا، بل لابد أن يُعلنوا عن موقفهم المعارِض والرافض كلياً لصفقة الخزي والعار، سراً وعلانية، وعلى المستويين الرسمي والجماهيري. وأذكّر إخواني وأخواتي الأعزّاء بأن أضعف الإيمان في مواجهة هذا التحدّي هو كشف الحقائق لأبنائنا في مواجهة عملية التجهيل والتلاعب في التاريخ الذي تمارسه وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي.